يشهد العالم اليوم نقاشًا متصاعدًا حول مستقبل القاصرين في الفضاء الرقمي، خاصة بعد أن أوصى البرلمان الأوروبي برفع الحدّ الأدنى لاستخدام منصات التواصل وروبوتات الذكاء الاصطناعي إلى 16 عامًا، وهي خطوة تعكس قلقًا دوليًا متزايدًا من حجم المخاطر التي تهدد النشء في عصر تداخلت فيه التقنية مع تفاصيل الحياة اليومية. فالأسباب التي دفعت البرلمان الأوروبي لهذا التوجه تتجاوز فكرة الحماية التقليدية، إذ تشير الدراسات إلى أن الأطفال والمراهقين يفتقرون إلى القدرة الكافية للتمييز بين المحتوى الحقيقي والمضلل، في وقت أصبحت فيه تقنيات التزييف العميق قادرة على إنتاج صور وأصوات لا يمكن اكتشاف زيفها بالعين المجردة. كما يتعرض القاصرون أكثر من غيرهم لمخاطر الإدمان والعزلة الاجتماعية والتنمر الرقمي، إلى جانب جمع الشركات كميات ضخمة من بياناتهم الشخصية واستغلالها تجاريًا بطريقة قد تضر بنموهم النفسي والمعرفي.
ومع تزايد هذا الجدل، يبرز السؤال: هل يمكن تحديد سنّ رقمي آمن يضمن تفاعلًا مناسبًا مع هذه المنصات؟ الإجابة تكمن في اعتماد معايير علمية واضحة تستند إلى مستوى نضج الطفل ووعيه الرقمي وقدرته على فهم المخاطر. فليس كل المنصات متشابهة، وهناك فرق كبير بين الألعاب البسيطة والمنصات التفاعلية المتقدمة التي تعتمد على ذكاء اصطناعي قادر على جمع البيانات وتحليل السلوك في ثوانٍ. ولذلك فإن تحديد السنّ الأمثل يتطلب تكاملاً بين الأسرة والمدرسة وخبراء علم النفس والتقنية لتقييم جاهزية الطفل قبل السماح له بدخول هذا العالم المعقد.
ولا يمكن تجاهل التأثير الهائل للذكاء الاصطناعي على شركات التواصل الاجتماعي ومنصات التقنية، حيث أصبح هذا التطور مصدر قوة ورأس مال جديدًا يتيح تحسين جودة المحتوى وتقديم خدمات مبتكرة مثل المساعدات الرقمية والاقتراحات الذكية. ورغم هذه الإيجابيات، إلا أن الوجه الآخر لهذا التطور يحمل تحديات خطيرة، أبرزها الاحتيال وانتحال الهوية باستخدام تقنيات التزييف العميق، ومحاولات القاصرين الالتفاف على القيود العمرية باستخدام أدوات تخفي الهوية. وباتت الشركات مطالَبة اليوم بتطوير وسائل أكثر صرامة للتحقق من العمر، سواء عبر تقنيات التعرف على الوجه أو الربط مع الهويات الرقمية الرسمية أو استخدام الذكاء الاصطناعي نفسه لكشف التلاعب.
ومع كل هذه التعقيدات، يرى كثير من الخبراء أن رفع سن الاستخدام ليس بالضرورة الحل الوحيد أو الأنجع. فهناك بدائل تنظيمية متقدمة قد توفر حماية أفضل للقاصرين دون حرمانهم من الاستفادة من التكنولوجيا، مثل الحدّ من ساعات الاستخدام اليومية، وتفعيل الرقابة الأبوية الذكية، وإنشاء نسخ آمنة للأطفال من منصات التواصل، إضافة إلى فرض عقوبات صارمة على الشركات التي تفشل في حماية الأطفال، وإدراج التربية الرقمية ضمن المناهج التعليمية بما يعزز الوعي والسلوك الآمن.
إن حماية الأجيال الجديدة في عصر الذكاء الاصطناعي لم تعد خيارًا بل ضرورة؛ فالعالم الرقمي يفتح أبوابًا واسعة للمعرفة والإبداع، لكنه في الوقت ذاته يحمل أبوابًا أخرى للتضليل والاستغلال إن غابت الحماية والرقابة. وبين دعوات رفع سن الاستخدام وبين البحث عن حلول بديلة، تبقى الحقيقة الأهم أن المستقبل الرقمي لن يكون آمنًا إلا بوعي المجتمع، ومسؤولية الأسرة، والتزام المنصات، وتشريعات قادرة على مواكبة التكنولوجيا التي تتغير أسرع من قدرتنا على فهمها.
•أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود






