المقالات

محمد العقلا… رحيلُ قامةٍ علمية وإنسانية نادرة

لم يكن خبر وفاة معالي الأستاذ الدكتور محمد بن علي العقلا –رحمه الله– مدير الجامعة الإسلامية -سابقًا- مجرد إعلان عابر، بل موجة واسعة من الحزن اجتمعت عليها قلوب من عرفوه وسمعوا عنه وتعاملوا معه، وتوحد الناس في لحظة رحيله على مشاعر الدعاء والثناء، في مشهد نادر لا يصنعه إلا أصحاب النفوس الكبيرة والأثر العميق، فشهادات طلابه وزملائه وكل من قابله امتلأت باستحضار المواقف، والحديث عن إنسانٍ لم يكن يمر في حياة أحد إلا وترك فيها نورًا لطيفًا وأثرًا باقيًا.

كان معاليه –رحمه الله– من الشخصيات التي تدرك منذ لقائها أنك أمام إنسانٍ استثنائي في خُلقه وطِباعه؛ هدوءٌ يسبق حضوره، ووقارٌ مطمئن لا يشبه إلا أهل الرسوخ في العلم والحكمة، وابتسامة تمس القلب قبل الملامح، لم يكن بحاجة لرفع الصوت أو الاستناد إلى منصب، فقد كان يكفيه خُلقه، وكانت محبته تنساب إلى القلوب دون استئذان، ولعل أجمل ما رآه الناس بعد وفاته هو ذلك الإجماع العفوي على الدعاء له، وكأن محبته كانت سرًا يتنقل بين الصدور دون أن يفرضها أحد.

أما بالنسبة لي، فقد كان معاليه مشرفي في رسالة الدكتوراه، وكانت علاقتي به مختلفة تمامًا عما عرفته سابقًا في الوسط العلمي؛ علاقة عنوانها اللطف والتواضع والأبوة العلمية، ولم يصدر منه نحوي طوال فترة الإشراف إلا كلمات تُطمئن القلب وتفتح باب العزم، وكان يردد عبارته التي لا تغيب عن ذهني: “أنت أبوها وسمها”، وكأنه يزرع في داخلي الثقة قبل العلم، والطمأنينة قبل الحرف.

وأذكر حين طُلب مني في أحد اجتماعات القسم العلمي تغيير موضوع الرسالة، وقد كنت غاضبًا ومتضايقًا من القرار، فهدأني –رحمه الله– وقال بصوته الهادئ الواثق:
“لا تغضب… لعلها خيرة. الأمر يسير عليك، وستستطيع التعديل بسهولة”.
كان يدرك أن القرار ليس أدق ما يكون علميًا، لكنه قابله بحكمته المعهودة، فهدأ نفسي، ولطف خاطري، وفتح لي باب الطمأنينة، حتى مضيت في التعديل بثقة لأنه هو من قال لي: ستقدر.

وكان عند كل مرحلة من مراحل الرسالة هو من يهديني ويحفزني ويشجعني، لم يكن يحب أن يفرض رأيه علي، بل كان –عندما يرى خطأ– يقول بلطف يُخفف وقع الملاحظة:
“أقترح عليك… إن أردتَ تعديل كذا”.
يا لطيبته ورقّة تعامله، ما أكرمه وما أحلمه.

وكانت الأيام التي سبقت مناقشة الرسالة شاهدة على ذلك القلب فقد كان يتابع حالتي أولًا بأول، يسأل عن جهوزيتي، ويشد من أزري، ويردد: “لا تخف، ولا ترتبك… أنا معك”
لم تكن كلمات تشجيعٍ عابرة، بل كانت حضورًا حقيقيًا في كل لحظة، وفي يوم المناقشة لم يكن مجرد مشرف أكاديمي؛ كان سندًا لا يميل، وكان أبًا وعزوة، وكان العين التي تَرصد الثغرات قبل أن أصل إليها، فيسدها عني، ويقف في الموضع الذي كنت أحتاجه فيه دون طلب، كان حاميًا قبل أن يكون محكِّمًا، ورفيقًا قبل أن يكون ملاحظًا.

ولم يكن أثره علي وحدي؛ فقد شهد زملائي في يوم المناقشة جانبًا من حضوره وطيبته وإنسانيته، وقالوا لي بعد ذلك إنهم تمنوا لو كان هو مشرفهم، وأن يحظوا بتوجيهه، كان حلمًا للجميع، وكنتُ من القلائل الذين نالوا شرف ذلك القرب وتلك الأبوة العلمية، وهو شرف أحمله اليوم أثقل من الكلمات.

ولم تخلُ أحاديثنا ورسائلنا من ذلك الخُلق العظيم الذي كان يفيض به، ففي الوقت الذي ينتظر فيه الطالب كلمة مقتضبة من أستاذه، كان الدكتور العقلا يكتب لي بعبارات تُشعر المرء بكرم قلبه قبل قلمه، لم تكن رسائله مجرد كلمات، بل كانت مرآةً لطبعه الكريم وروحه الندية؛ تحمل في سطورها من العطف والاحتواء ما يدل على قلبٍ لا يعرف إلا الخير. وستظل محفوظة في القلب بما تحمله من صدقٍ وإنسانية لا تتكرر.

وقد لخصت هذه المشاعر أبياتٌ تُشبه حال القلب حين يذكره:
رَحَلَ الذي كانتِ الدُّنيا تُجِلُّ خُطاهُ
ويَفيضُ من خُلُقٍ عليهِ سَناهُ

فإذا ذَكَرْتُ مُحَمَّدًا وَجَدْتُ في
قَلْبِي لَهُ دَعْوَى تُجَدِّدُ رَحْمَاه

ولم تكن شهادتي فيه استثناءً؛ فقد امتلأت منصات التواصل بذكريات طلابه ومواقف لا تُنسى، قصص عن دعم، ونصح، وابتسامة صادقة، وكلمة طيبة لم يقصد منها إلا الخير، كان الناس يتحدثون عنه بلا تكلف، ويجتمعون على وصف واحد: كان رجلاً طيبًا. وهذا وحده أعظم رثاء يمكن أن يُقال في إنسان.

رحل معالي الأستاذ الدكتور محمد العقلا، لكن بقي أثره: في نفوس طلابه، وفي أخلاق من عرفوه، وفي كل قلب مسه بدفء كلمة أو بضوء رحلة علمية كان فيها معينًا ورفيقًا وداعمًا، اللهم اغفر له وارحمه، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، واجزه بما قدم خير الجزاء، واجعل كل دعاء وكل ذكر جميل بعد وفاته نورًا يرفع درجاته عندك، اللهم آنس وحشته، وثبته، واجعل ما خلفه من محبةٍ وعلمٍ وخلقٍ شاهدًا له لا عليه.

• مساعد مدير مكتب رئيس جامعة أم القرى

د. براء حسن التركستاني

مساعد مدير مكتب رئيس جامعة أم القرى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى