يُعدّ مفهوم الحضور من أكثر المفاهيم التباسًا في بيئات العمل الحديثة. فالحضور غالبًا ما يُختزل في التواجد الزمني أو الالتزام الشكلي، بينما تتراجع قيمته الجوهرية بوصفه وعيًا ومسؤولية وتأثيرًا مباشرًا في جودة الأداء. ومن هنا، يصبح من الضروري إعادة النظر في معنى الحضور كفلسفة عمل، لا كإجراء إداري.
في بيئات العمل، لا يظهر غياب المعنى فجأة، بل يتشكل تدريجيًا عندما تتحول الأدوار إلى مهام ميكانيكية، ويصبح التواصل قائمًا على السؤال والجواب فقط، دون نقاش أو تفكير أو مشاركة حقيقية. هذا النمط لا يشير إلى ضعف في الكفاءة بقدر ما يكشف عن غياب الحضور الذهني، حيث يؤدي الأفراد أعمالهم دون ارتباط فعلي بأثرها أو نتائجها.
جودة بيئة العمل لا تُقاس بعدد الاجتماعات ولا بسرعة الردود، بل بمدى وضوح الأدوار، واتساق السلوك، والشعور بالمسؤولية المشتركة. عندما يكون الموظف حاضرًا فكريًا، فإنه لا يكتفي بتنفيذ المطلوب، بل يفهم السياق، ويتوقع النتائج، ويشارك في تحسين المسار. أما حين يغيب هذا الحضور، فإن العمل يستمر شكليًا بينما تتآكل قيمته الحقيقية.
وتتجلى إشكالية الحضور بوضوح في تذبذب المسافات المهنية داخل المنظومات. فقد يكون القائد قريبًا في الخطاب، بعيدًا في القرار، أو حاضرًا في التوجيه، غائبًا عند المساءلة. هذا التناقض يخلق بيئة غير مستقرة، حيث يفقد الأفراد الثقة في ثبات المعايير، ويحل الحذر محل المبادرة.
ولتوضيح ذلك عمليًا، يمكن النظر إلى اللقاءات الممنهجة في المنظومات التعليمية. فعندما تُصمَّم هذه اللقاءات بحيث يُتاح للطالب أن يعبّر عن رأيه، وللأستاذ أن يطرح وجهة نظره، ضمن قيادة تستوعب اختلاف المواقف وتنوّع أنماط التفكير، فإن ذلك يعكس حضورًا حقيقيًا لا شكليًا. وجود جميع العقول في قالب واحد للحوار، لا للإملاء، يحوّل الاجتماع من إجراء تنظيمي إلى مساحة إنتاج للمعنى.
في هذا السياق، لا يكون الحضور مجرد جلوس في قاعة أو مشاركة اسمية، بل يتجسّد في ما ينتج عن الحوار من توصيات وقرارات اشترك الجميع في صياغتها وتحمل مسؤوليتها. هنا يصبح الاختلاف مصدر قوة، ويغدو التفاعل دليلًا على الامتثال لفلسفة أن تكون حاضرًا، لأن المعنى يتشكّل من المشاركة لا من الفرض.
ومن خلال هذا النموذج، تتضح العلاقة المباشرة بين الحضور الواعي وجودة بيئة العمل، كما تتجلى ملامح المنظومات التحولية التي لا تكتفي بإدارة الواقع، بل تسعى إلى تطويره. فالمنظومة التحولية تقوم على وعي مبني على التفكير الناقد، حيث لا تُتخذ القرارات بوصفها مسلّمات، بل كنتائج لحوار وتحليل وتفكير جماعي.
في هذا الإطار، يصبح التفكير الناقد أداة للريادة، لا للتشكيك، ويغدو الاختلاف وسيلة لفهم أعمق لا عائقًا أمام التقدم. الحضور هنا يعني المشاركة في بناء الرؤية، وفهم التحديات، وصياغة الحلول بشكل مشترك. وحين تتبنى المنظومات هذا الوعي، تتحول بيئة العمل إلى مساحة تعلّم مستمرة، وتنتقل من الأداء التقليدي إلى الريادة المؤسسية القادرة على التكيّف والاستدامة.
وفي سياق رؤية المملكة 2030، يتجلى المعنى الحقيقي لفلسفة أن تكون حاضرًا، حيث لا تستهدف الرؤية تطوير الهياكل والأنظمة فحسب، بل تركز على بناء الإنسان، وتعزيز جودة الأداء، ورفع كفاءة المنظومات عبر وعي مهني قادر على التفكير، والتقييم، وصناعة القرار. إن التحول الوطني، كما تطرحه رؤية 2030، يقوم على منظومات تحوّلية تعتمد الشفافية، والمساءلة، والتمكين، وتبني التفكير الناقد بوصفه أداة للتطوير لا للمواجهة. وهنا يتحول الفرد من منفذ للتعليمات إلى شريك في تحقيق المستهدفات، ومن متلقٍ للتغيير إلى عنصر فاعل في صناعته.
وبهذا المعنى، يصبح الحضور الواعي أحد مسارات الريادة الوطنية، لأنه يعكس انسجام الأفراد مع الرؤية، وقدرتهم على تحويل التوجهات الاستراتيجية إلى ممارسات يومية ذات أثر ملموس في جودة بيئة العمل وفي استدامة النتائج، فكلما تعمّق الوعي المهني وارتقى التفكير الناقد، ازدادت فعالية الأداء وازدهرت بيئة العمل بشكل مستدام.
• رئيس قسم الكيمياء بجامعة جدة