الحرمين الشريفين

خطبة الجمعة من المسجد الحرام للشيخ عبدالرحمن السديس

مكة المكرمة – واس – صحيفة مكة الألكترونية –
جمادى الآخرة 1430هـ الموافق 29 مايو 2009م

أوصى [COLOR=crimson]فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ عبدالرحمن السديس [/COLOR]المسلمين بتقوى الله حقَّ التّقوى، فإنها الذُّخر الأبْقَى، والسَّعَادَة التي مَا دونَها فَوزٌ ولا فوقها مَرْقَى .
وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم / أيها المسلمون في مَعَارِج الكُشُوفاتِ والعِرفان، اسْتَقَرَّ إنسان هذا الزّمان، في عصر الثَّوْرَاتِ التِّقَانِيّة الهائلة، التي أسْفرت عن وسائل الاتصال السريعة المُتطوِّرة، فَخوَّلَتِ الإنسان أنْ يَتَواصل مع من شاء في أيِّ شِبْرٍ من المعمورة شاء، وفي أيِّ لحظةٍ شاء، في بثٍّ مُبَاشِرٍ مُفَصَّل، يَحْمِل الصَّوت والصُّورَة مَعَا. وما ذلك إلاَّ دليل عظمَة الخالق البارئ المُصَوِّر –سبحانه – الذي هَدَى العُقولَ والأفكار فَصَنَعَتْ واخْتَرَعَت؛ وطوَّرت وأبْدَعَت، قال –جَلَّ جَلاله- مُمْتَنًّا على عِباده:( عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)/.
وأضاف يقول/ ومِمَّا ابْتَكَرَهُ العَقْل البَشرِي وجوَّدَه، وبما يذهل من العجائب أرْفَدَه، آلات ووسائل قد عَمَّ بين الخَلِيقة انتشارُها، وجَلَّتْ مَنَافِعُها وآثارُها، وكذَا أضرارها وأخْطارها، كَمْ أظْفرت مِنَ المُنَى والأرَبْ، مَتَى التُزِم فِيها الحِجَى والأدب، وكَم نَشَرَت مِنْ هُدَى واستقامَةٍ ومعروف، وحِكمةٍ ومَوعظةٍ وإغَاثةِ مَلْهُوف! يَسَّرت بُلُوغَ الأخْبَار، ونَتائج الأفكار، في لَمْحِ الأبْصار، بَيْن القرى والأمصار، مهما شط المَزَار، قَرَّبت البعيد، وجَدَّدَت العهيد، وغَدَت للعَالَم أجْمَعْ قطب رحى التّخاطب، ومَدَارُ الاتصال والتواصل ولكنها في مُقابل ذلك، إنْ أسَاءَ حَامِلها وانْحَرَف، وللإثْم بِها اقْتَرَف، أصْبَحت بُوتَقَةً للشُّرُورِ والنِّقَم، فكم أوْقَعَت في مَصَائد المصَائِب، وألْقَت كثيرًا مِن مستخدميها بين أنْيَاب الغوائل والنَّوائب، تلكم هي وسائل الاتصالات الحديثة بما فيها الهواتف المحمولات، والحاسوبات وأجهزة التقانات، وشبكات المعلومات .
وأردف يقول مع تهافُتِ الناس على أرقى تِقانات تِلك الوسائل وأحدثِها، إلا أنك تُلْفِي لَدَيهم جهلاً ذريعًا بِحُسْنِ اسْتِعمالها وأَمْتَا، وخَطرًا مُحْدِقًا كالسَّبَنْتى، مِن: جَفافِ الرُّوح، وضعْف القِيم، وعجز الهِمَمِ دُون التَّحَدِّيات التي استهدَفت كثيرًا من قضايانا العقديّة والفكريّة، والثقافية والأمنية، كان رَافِدُها هذه الوسائل والتقانات المعاصرة.
وأكد فضيلتة انه لن يُرْتقى بالوعي الشرعي والأدبي والثقافي في ذلك، إلاَّ إذا قُوِّمت العقول، وشُذِّبَت الثَّقافات، وهُذِّبت التعاملات والانطباعات، إزاء تلك المتوارِدَات وقال // ما أحرانا أن نُزجي للعالم الإسلامِيِّ دُرَرًا من كنوز شريعتِنا الغرَّاء عَبْرَ بَصَائر وإلْمَاحات، ووقفات سَنِيَّات، تكون تذكرة بأخْلاقِيات تلكم الوسائل وإيقاظا، وتسْدِيدًا إلى حُسْن استثمارها وإنْهَاضا؛ تطلُّعًا واستشرافًا لخيرٍ يَعُمّ، وتحذيرًا من شرور وبَوَائق تَغُمّ، بل لِيُؤجَرَ مُسْتعمِلوها ويَغْنَموا، ولا يَأْثَموا ويَغْرَموا، ومن المولى نَسْتَلْهِم الأيْد والتوفيق، والهدَى لأقوم طريق.

وأوضح الشيخ الدكتور السديس أن أولى هذه الآداب والبَصَائر، إخلاصٌ للمولى، وحمدٌ وشكرٌ للمنعم –سبحانه- على هذه النِّعم الجُلّى، والادِّكار والاعتبار بما سلف من الأحوال والأعصار والبصيرة الثانية ألاّ يَهْتِف المتّصل بمُخاطبه إلاَّ في الأوقات المُناسِبة، التي جاء الشرع الحنيف بِبَيَانِها، والعُرف بِحُسْبَانِها، كَسَاعات البكور وأوقاتِ الظهيرة، وما تأخّر من الليل؛ حتى لا يؤذِي مَشاعر المسلمين ويقطع عنهم راحتهم وخلوتهم؛ إلاّ لِمضطرٍّ وطارئ، قال ( فيما رواه الترمذي عن ابن عمر –رضي الله عنهما-:«لا تؤذوا المسلمين»، ومن ابْتُلِي فَلْيَحلم ويَصْبِر.اما الدُّرَّة الأدبيّة الغالِية الثالثة: التزام التّحِيّة الشّرعِيّة (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ)، قبل المبادرة بالخطاب والكلام، وكم يَغْفل عن هذا الخُلُق فئام مِن الناس، قال صلى الله عليه وسلم (:«أَوَلاَ أدُلُّكم على شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوه تحَابَبْتُم، أفشوا السلام بينكم» أخرجه مسلم. أو يستبدلونها بتحايا وافدة، وعبارات نمطية نافدة، يلي ذلك تعريف المُتَّصِل بِنفسِه وقَصْدِه، مُفْصِحًا عن أرَبِهِ بِوَقَارٍ واحْتِرَام، دون تمويه وإلغاز، ومُوارَبَةٍ وإعجاز؛ لِيَطمَئِنَّ المُخَاطب، وتَنْدَاح الوِحشة بين المتصلين .
وأفاد أن رَابِعَةُ دُرَرِ البَصَائر والأخْلاق، التي تُضمّن الأحْدَاق، الإيجَاز في الحديثِ والاختصار، وأن يكون الاتِّصال هادِفًا لَطِيفًا، مُدَبَّجًا بالعقل ورِيفا، دونما يُشاهد ويُرَى، ويُسمع ويُروى، مِن هَذَرٍ وإمْلال، وقيل وقال، وإهْدَار وقت نفيس وإثقال،أنسي قال –تبارك وتعالى-:(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

وقال فضيلته // ومِمَّا يَسْتَوقِفُنَا خامِسًا، وهو من السُّلوكِيّات المقيتة، التي لا يتورَّع عنها فئام من الناس، ممن تجافوا عن المروءة والنبل، والشهامة والفضل، ولا يفْقهون نَكارَتها فَتح مُكبِّر الصَّوت على الملأ، أو تَسْجيلُ مُكَالَمَةٍ، أو تنصّت خادع، دون عِلْم المُتّصِل وإذْنه، وهذا الفعل الوضيع، بغيضٌ شرعًا وأدَبًا؛ لِتَضَمُّنِهِ الخِيَانَةَ والنَّمِيمَة والتجسس، وتتبع العورات، الوقفة السَّادسَة فهي نحو محظور شرعي، يحتفُّ بهذه الوسائل والتقانات، ألا وهو تلكم النَّغمات غير الشرعية، التي ضَمَّنها جم غَفير من الناس أجهزة اتصالهم، ومَا كان أغْنَاهم بالمُبَاحِ عَنْ ذلك، بَلْ مِنهم –هَدَاهم الله- مَن يَتَوَقَّحُ بإسْمَاعِ غيره ذلك المُنكر، بِكُلِّ صَفَاقةٍ ورعونة، ودون مُسْكَةِ ارْعِواء أو حَيَاء وسَابعة الوقَفَات المُهِمَّات، التي ألَمَّت بالمُقلِقات، وأطلَّت بالمؤرِّقات، وحَادِّتِ المسلمين في لَذِيذِ مُناجَاتِهم وخُشوعهم، وأُنْسِهم بِالله وخُضوعهم، ترْك الهَواتِف المَحمولة في حالة استِقبال أثْنَاء الصَّلاة، فَتَرْتَفِع مِنها أصوات المعازِف في بيوت الله، في بيوتٍ حَقُّها التطهير والتعظيم، والرَّفْعُ والتّفْخِيم،قال سبحانه (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ).

وبين الدكتور السديس ان ثامن مِمَّا نَسْتبْصِرُ بِه في أخْلاقِيَّات هذه الوسائل الخَطيرَة، أنَّها تسْتعمل –دُون تَحَرُّج أو خجل- حَال قيادَة المركبات، مِمَّا جرَّت مَآسِيَ وَنَكَبَات، حَيْث أكّدَتِ الدِّراسات والإحصَاءات أنَّ أهمَّ أسْبَاب حوادثِ السَّير، وإزهاق الأرواح، وإشاعة الأتراح، سَببها الانشغال بالهواتف المحمولة، وصاحِبه لا يزال مستخفًا مَذْمُومَا، وبأفظع المخالفات موسوما، داعيا الجهات المُخْتصّة إلى سَنّ الأنظمة الوَاقِية، حِيال هذا السّلوك المَشين، الذي يَحْمِلُ في طَيَّاته كوارث بَشريّة، ومَخَاطِر اجتماعِيّة مُحَقَّقة، نسْأل الله العافية والسَّلامة

وخاطب الآباء والأمَّهَات بالقول ولَئن دَلَفْنَا إلى البَصيرة التَّاسعة، فإنّه يجب على أولياء الأمور متابعة أبْنَائِهم ومَحْمُولاتِهم، بين الفينة والأخرى، وتعهّدُهم –في عطفٍ وحُبٍّ- بالنّصْح والإرشاد، بالمَرْحمة قبل الملحمة، تلقاء تلك الأجهزة والتّقانات، فكم مِنْ فرَطات وويلات ومَهَالك، أسْفَر عَنْهَا تفْرِيط الآباء هُنالك، وحَاقَ النّدَم ولات سَاعَةَ مَنْدَم، أخرج الشيخان من حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: قال (:«كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيّتِها»، .
وقال إمام وخطيب المسجد الحرام إن عَاشرة تلك البَصائر وخاتمتها، استغلال تلك الوسائل والتقانات في المَسَالك الوبيئة، والأغراض المحطِّمة الدنيئة، بنشر الرذيلة، وهدم الفضيلة، وذلك عبر الهواتف المحمولة المزودة بآلات التصوير الحديثة، فيسعى منحطُّو السلوك، عديموا المروءة، ميّتوا الضمائر، بكل خُبْثٍ وحيلة، ومكرٍ وغيلة؛ لإيقاع الغافلات المخدوعات في شِرَاك التصوير الخادش، ليتخذوا ذلك –وبئس ما اتخذوا- حجة للتشهير والاستفزاز، والمساومة الوقحة والابتزاز، مما يَهْصِرُ الغيرة هَصْرَا، ويُذيبُ أفئدة المؤمنين عصْرَا، والأغمار الجاهلون عن وعيد الله ذَاهِلون ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون).
إن مثل ذلك في ما يُسمى بمواقع التخاطب مع الغير /غرف الشات والبلوتوثات/ التي تحطِّم الشرف والعِرْض على نواتئ الصُّخُور الصَّلْدة، من قِبل السِّباع البشرية الضَّارية، والذِّئاب الشارية، ويُسْلك في ذلك السِّمط الصَّدِئ، الطعن في أعراض البُرَآء والبريئات، عبر مواقع ومنتديات الشبكة العالمية «الإنترنت»، إمعانًا في كيدهم والنّيل من شرفهم، (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ)، وبمغرورِق الأسى واللهف/ مشيرا إلى إن تلك الفواجع والمواجع، متى استحكمت في مُجْتمع واسْتمْرَأها، فعلى الدنيا العَفَاء، وسَطّروا على أنْقاضها عِبَارات الفَنَاء، والله وحده المستعان، وإليه المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وبين الشيخ عبد الرحمن السديس اهمية التوازن في استخدام وسائل التقنية الحديثة واستماره خدمة الدِّين ونَشر إشراقاته،والاضطلاع بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من خلال مَواقع الهواتف المنقولة، وشبكات المعلومات، والمنتديات والمواقع الإسلامية، التي تُقَدِّم الحلول الشرعية لنوازل العصر ومستجدّاته، والفتاوى الموثوقة المؤصّلَة، والفائدة العلميّة المُعَجَّلة، وفي تحصين شباب الأمة، دون الانزلاق في بؤر الشّهوات التي تعصِف بهم، والشبهات التي تَخْلُص بهم إلى مَرَاتِع التكفير والتّنَطع والغلوّ، والتخريب والعولمة والتغريب، وأن نَغْرِسَ فيهم إيمانًا يَأتَلِق بِنُور الاعتدال والوسطية، والثّبات والبَصِيرة.
وقال الشيخ السديس ما كان لهذه القضِيّة المهمّة، أن تُنَكِّبَنا عن أحوال أهالِينا وإخواننا في محافظتي أملج والعِيص وما جاورهما، حيث لا غنى لهم عن رِفْدِكم، وصَادِق دعائكم في جوف الأسْحار أن يكشف الله كُربتهم، ويزيل غُمَّتَهم، ويخفف لوعتهم، ويَرُدّهم إلى دورهم سَالِمين آمِنِين.
واضاف غير خاف على الجميع، أن التسلح بالإيمان بالله، والصبر على قضائه وقدره، واحتساب أجره، والإنابة إليه واستغفاره، وصدق اللجئ إليه، ودعائه مع عدم التهويل والإثارة، والسير وراء الإرجاف والشائعات، على أن الجُهد الرّائد المَشكور لولاة الأمور، ورجال الأمن والدفاع المدني، السَّاهرين على رعايتهم وعِنايتهم، مُضْفٍ بحمد الله للارتياح والسّرور، وبَلْسَمٌ دون وطأة القلق والوجوم، ضاعف الله لهم الأجر والمثوبة، وبَارك لهم آلاءه الهامية، ونعمه النّامِية، آمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى