المقالات

يوميات لندن (7): نهر التايمز… شاهدٌ على صعود الإمبراطوريات وأفولها

لندن مدينة نهر.

وحين تتأمل المدن الكبرى في التاريخ، تجد أن أعظمها قد نشأت على ضفاف الماء: النيل في القاهرة، الفرات في بغداد، السين في باريس، والراين في كولونيا. أما في لندن، فإن التايمز ليس مجرد نهر… بل ذاكرةٌ تتدفّق منذ آلاف السنين.

مشيت غير مرة على ضفافه، من ويستمنستر إلى تاور بريدج، في صباحات ضبابية وسكون المساء. كان في صوت الموج إيقاع خافت يشبه تنفّس مدينة، لا تنام ولا تهدأ، لكنّها تُخبئ في قلبها قصصًا لا تُروى إلا بالمشي… والصمت.

على هذا النهر، دخل الرومان أول مرة، وجعلوا من لندن قاعدةً لحكمهم.
وعلى ضفافه، نشأت التجارة، وبُنيت السفن، وتحركت الجيوش.
وهنا، نُصبت أعمدة العدالة، وحُكم على الثائرين، وعُقدت المجالس الملكية.

في أحد الأيام، تأملت انعكاس برج “بيغ بن” في الماء، فشعرت وكأن الزمن يسقط في النهر ويعود من جديد.
المدّ والجزر لا يحملان فقط ماء، بل يحملان صور الملوك، وصخب الثوار، وصمت الحكماء، وخيبات الشعراء.

في مروري قرب “تاور أوف لندن”، قلت في نفسي:
كم من روح عبرت هنا، سُجنت أو أُعدمت أو نالت العفو؟
وهل تبقى العروش إن جفّ الماء أو نسي الناس حكاياته؟
لكن النهر لا يجيب. هو فقط يمضي… ويحفظ.

وفي لحظة تأمل، وقفت أتلو قوله تعالى:
{فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِبْ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}
[طه: 77] فقلت: ما أكثر ما ارتبط الوحي بالماء، والفرج بالنهر، والنجاة بالعبور.
ولعل هذا النهر – وإن لم يكن بينه وبين موسى شيء – يُذكّرنا أن في الماء سرًا من أسرار الرحلة، والنبوة، والإنسان.

اليوم، يسير السياح على متن المراكب الزجاجية، يلتقطون الصور، ويظنون أنهم يرون النهر.
لكن الحقيقة أن النهر هو من يراهم، ويبتسم في صمت:
لقد رأيت ما هو أعظم، وسأبقى بعدكم، فامضوا خفافًا.

نهر التايمز لا يتكلم، لكنه يشهد.
يشهد على عبور الزمن، وعبور القلوب.

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى