المقالات

ليس كلُّ ما يلمعُ ذهبًا

ف-نار

تعد اللوحة الفنية المرآة السحرية التي لم تُهب لغير الفنان، إذ تعكس خياله بأدق تفاصيله الظاهرة والخفية، فهو لا يكتفي برسم الأشياء الظاهرة التي يراها كل مبصر، ولكن سحر مرآته يكمن في إظهار ما يتوارى خلف هذه الأشياء التي لا يراها سواه، فيهرع إلى التعبير عنها بلغة خاصة يمكن وصفها بلغة الدهشة، أبجدياتها الخط، والنقطة، والمساحة، والظل، والضوء، وبقعة اللون، وكثير من الرموز التي لا حصر لها، إذ هي وليدة اللحظة التي يلتقي فيها الخيال مع الإحساس، فيصوغها في تكوينات متلاحمة ومنسجمة حتى – وإن بدت فيها متناقضات يستحيل الجمع بينها – تقتلع المتذوق والمتأمل من واقعه، وترحل به عبر خيالات ورؤى من المشاعر والانفعالات المتباينة، فقد يحملق فيها مبتسمًا، وقلبه يتقطر ألمًا، أو يقهقه ممعنًا في السخرية، وقد يشعر بالرغبة في أن يجثو على ركبتيه إعجابًا.
وكلما اتسع خيال الفنان كان أجدر أن يظهر ذلك في لوحاته، فتدق التفاصيل، وتتماهى الألوان مع المشاعر، وينساب الإحساس بين غموض الظلال وجراءة الضوء، فبين النقطة والانحناءة نقرأ حكاية، وفي ناحية ما نكتشف سرًا.
إن الرسالة التي يريد الفنان أن يوصلها إلى المتلقي تعكس من يكون، وتبرز بصدق رصيده الفني والثقافي والأخلاقي، فحين تحملك رسمة الفنان على التفكير في قضية إنسانية، أو تحرك في داخلك الشعور بقيمة نبيلة كالحرية والكرامة والتضحية، أو تفجر فيك الشعور بالجمال في إبداع الخالق، وتقول في قلبك – سبحان الله – قبل أن ينطق بها لسانك، أو تقودك لتبني موقفًا إنسانيًا ونحو ذلك من ردود الفعل والتفاعل، فإنه لفنان جدير بأن يمثل الفن في أرقى مراتبه.
ما أشبه هذا الفنان بالكاتب المثقف الملتزم الذي حين يمسك أداته ليعبر عما يقلقه تتقاطر عليه الأفكار تباعًا، فيسارع إلى تدوينها مخافة أن تهرب منه وتختبئ خلف ظل قلمه، ومع شدة قربها إلا أنه من الصعب عليه أن يجدها مهما جدّ وشمّر.
هذا الكاتب يشبه الفنان فحين يصوغ لغة فكره فليس ذلك كي يُنفّس عما يقلقه أو ليلقي بهمومه على الورق كمن يرمي بالحجارة في البحر كما يقولون، أو يجمع له مريدين، وإن كانت تلك بعض أهدافه، لكن الهدف الأسمى هو أن يشرك معه القارئ فيما يؤمن به من أفكار يعتقد أنّها ستؤثر في شخصية القارئ ونمط عيشه، وترتقي بعقله وفكره إلى الأفضل.
لكن حين تكون الكتابة لا تتعدى تنميق ألفاظ وتزويق مفردات، والرسم ليس سوى دفق ألوان ودوزنة صور فستكون كالحليّ المغشوشة، فليس كل ما يلمع ذهبًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى