
لا أعلم سببا لهجوم الجوع فجأة عليّ، ومن ثم قررت أن أغير اتجاه السيارة بدلا من الذهاب للقاء في الموعد المحدد سلفا، توجهت نحو أحد المطاعم؛ مطعم معروف وله سمعته، دخلت ومباشرة توجهت للطاولة الأخيرة.
كان ديكور المطعم جميلاً؛ عُلِّقت على جدرانه بعض اللوحات الزيتية لمناظر طبيعية وأماكن أثرية، طلبت أطباقا من الطعام تكون ضيفاً خفيفاً لا ثقيلا على معدتي هذه الليلة.. وبينما أنتظر أخذت أنظر في اللوحة التي كانت أمامي؛ لوحة طبيعة جميلة، في خلفيتها جبال وأودية بعيدة، وفي الواجهة منها بين الأشجار شاب يحاول أن يقطف شيئاً من الثمار. كان بجانب اللوحة بعض “الخربشات” التي لوّثت الجدار وأساءت قليلاً لِلَّواحة.. يبدو أنّ من كتبها معجب باسمه وتوقيعه، ولكن لماذا التاريخ؟ هل ليحتفل سنوياً بقدومه للمطعم؟. تناولت بعض الخضروات مقدمة لوجبة خفيفة شهية، سقط نظري عمودياً على سطح الطاولة التي زينتها رسومات امرأة ترتدي البرقع، وقلب شُق نصفين، وفي كلّ نصف حرف بالإنجليزية، أحسست أنّ الكرسي دافئ، تساءلت مع نفسي هل كان يجلس قبل قليل أحد قبلي إلى هذه الطاولة؟ من كان وهل كان فرداً أم جماعة؟! إذا كانوا جماعة فمن كانوا؟ وعما تحدثوا؟ عن العالم وغباء العولمة، أم عن غلاء المهور، أم “ليس لهم لا في الطين، ولا العجين”؟. وإذا كان فرداً هل كان فناناً تشكيلياً، وأخذ يحدِّق في الرسومات والديكور ويركِّب الألوان في لوحة جديدة تكونت لحظة ولادتها هنا في هذا المطعم فترك الأكل، وهرب مسرعاً للفرشاة والأصباغ؛ ليقذف بها على سطح اللوحة..؟. لربمّا يأتون لي بالطعام الذي تركه، لا.. لربمّا لم تعجبه اللوحات، ويعتبرها فناً كلاسيكيا قديماً، وهو رسام معاصر من الذين يقدِّمون لك لوحة بيضاء عليها بعض الرتوش، ويريدون أن يقنعوك أنّ هناك رسماً وفكرة عالمية. إذن.. هو تناول طعامه.
لماذا لا يكون الجالس هنا شاعرا؟ نعم شاعر.. وشاعر غير عادي، صاحب إحساس كإحساس الشمس عند الشروق، صاحب لمسة سحرية تأخذك بعيداً في الخيال، تهرول فوق مياه البحر دون أن تبتل، وتسبح على الرمال دون أن تتسخ؛ شاعر يجعل من الحرف وتراً يرقص ليكوّن جملة، كأنّه ورود ذات رائحة عطرية نفاذة في حديقة غناء.. طموح تحقق للداخلين، وأمل في الرجوع للخارجين .. شاعر عندما تسمعه، وتنظر إلى وجهه تشعر أنّك في أحسن حالاتك الصحية.
أو ربمّا يكون الجالس هنا تاجراً أخذ يفكِّر في صفقة من صفقات العمر، ويحسب الأرباح والخسائر والنسب الأكيدة، وليس من المعقول أن ينتبه إلى أي جمال في هذا المطعم، فإحساس التاجر في ملامسة العملة الصعبة، وكحل عيونه في الرصيد الكبير.
ومن المحتمل أن يكون من سبقني إلى هذه الطاولة اتخذ قراراً خطيراً.. طلاق بعد معاناة حياتية مع امرأة همها الفشر.. ثرثارة، صوتها النكد يطارده أينما ذهب في مشارق الأرض ومغاربها، أينما يولي فثم صوتها، فقرَّر أن الطلاق حلَّه الأخير، وربمّا يكون العيب فيه هو.. لا يملك فن التعامل مع النساء.
نظر حوله يمنة ويسرى وضحك متمنيا ألا يكون قد جلس على هذه الطاولة شخص معتوه أو مجنون، أو مصاب باكتئاب نفسي جعله يقرِّر قتل الحياة، أو أن يجعل من البحر والشمس والقمر والنجوم وكلّ الجمال في هذا العالم أعداءه.
هل سيعلم الذي سيجلس بعدي أنّ من كان قبله رجل مصاب بالازدواجية، تارة يحب الحياة، وتارة يصبغها باللون الأسود، لا زال حتى الآن يبحث عن سماء أخرى، وأرض أخرى غير هذه الأرض.. يريد أن يشرب ماء البحر حتى يسكت ظمأه الحلو تاركاً موعده مع آخرين من أجل إشباع معدته، وهو يثرثر مع كلّ شيء ولم يبقَ إلا أن يثرثر مع نفسه؟! هذا ما لم يكن يفعل ذلك..
قرّرت أن أسأل “النادل ” عمن كان يجلس على هذه الطاولة قبل قدومي:
– كانت عائلة يا سيدي، وكان لديهم هرّة بيضاء أجلسوها على الكرسي الذي تجلس عليه أنت الآن!!