منتدى القصة

استكانة النهر العجوز

بقلم: فكري داود

قصة قصيرة

مع الخطوط الأولى للنهار، ومع انتشار شقشقة العصافير، وتصايح دواجن البيوت، ابتهاجا بوجبة إفطارها اليومي، يحرص الأهل على إيقاظنا، يصحب الآباء بعضنا إلى الغيطان، لتنقية دودة القطن، أوتمليص أقماع الأذرة، أوجمع شجيرات الملوخية الخضراء والرِّجْلة، تاركين البعض الآخر ليتوجه إلى المدرسة، عقب شراء مؤونتهم اليومية، من الكرملة والنعناع واللب، في ما ينطلق أكثرنا إلى الشوارع، لجلب حاجات الأمهات من البائعين الجائلين والمحلات، أولتسليم لبن البهيمة المحلوب فجرا، إلى معمل الجبن بالقرية، باحثين في طريق العودة، عن بيض الدجاج والبط الشارد، وسط أحمال القش والحطب، المكومة بالفراغات العديدة بين الأبنية.
وقبل استئناف جولات لعبنا العابث، تقع عيوننا – أول ما تقع -، على مشهد يومي؛ تتصدره حزمة من النسوة، في أيديهن سُباطات بلح العام الفائت، يكنسن بها الشوارع المؤدية إلى النهر، قبل عودتهن لمواصلة أعمالهن البيتية.
وشبورة البكرية آخذه في التراجع، أمام خيوط الشمس المتسللة بهدوء. وأفران الطين بالزرائب، لم تخمد نارها بعد الانتهاء من الخبيز، نشوي ما جمعنا من بيض، تمتليء أنوفنا برائحة الخبز البلدي، وشذا أزاهير البرتقال، القادمة من الجزيرة المقابلة للقرية.
وثعبان النهر العجوز يتمدد مباحا، لنسوة أخريات يمارسن غسل الأواني والثياب، مستغلات استسلامه للسكون، لولا نسمات خفيفة تداعب صفحته، صانعة سجادة من خطوط متعرجة، كأنها رُسلٌ لأمواج كامنة بأحشائه، تُذكّره بأيامه الخوالِي، وغياب فيضانها العَفِىيّ، الذي ظل عمرا، يجدد شباب الأرض بطميه الطازج.
وسمكات كَسْلَى تتسكع قرب الشاطئ، الذي تتراكم على حافته مخلفات كنس الشوارع والبيوت، تعس فيها عنزات شاردات، علها تعثر على ما تقتات به، وقطط متسخة الوبرة، لاتُصْدر أيَّ مواء، وقليل من العصافير وأبو قردان، تنقب عن نصيبها في الحبوب والحشرات.
على مرمى أبصارنا، وعبر ستائر الشبورة الشفيفة، ينحتي صياد عجوز وسط قاربة الصغير، محاولا تخليص رزقه من شبكته، عقب سحبها من الماء، دون أن يرفع صوته، بيا ليل، أوياعين…
وبضع حمامات تغادر الشاطئ، عابرة إلى الجزيرة المقابلة، التي تبدو فيها عن بُعد، أشباح أشجار البرتقال، والموز بسباطاته المعلقة وأوراقه العريضة، قبل أن تعود الحمامات سريعا، لتدور حول مئذنة المسجد القريب، مستقرة فوق بلكونة مئذنته، لاندري فيم كان عبورها، أوفيم كانت العودة؟.
تعاود ذاكراتنا – رغم حداثة أعمارنا -، وقائع بناء المسجد، على أنقاض مصلاة قديمة، يتندر الكبار دوما، بما دار فيها من ذكريات، لبائعين جائلين غرباء، ولشغيلة الغيطان عند عودة منتصف النهار، الذين دأبوا على تخطي، درجا عشوائيا من بلاط جيرى، مرتمين في أحضان النهر، لإذابة تعب الساعات، قبل العودة إلى البيوت، أوالخلود إلى تقييلة قصيرة، تحت أشجار الكافور حول المصلاة، غير مبالين بمطاردة الغربان للعصافير، أوحفيف الأوراق بالأغصان، مع كل هبة ريح.
يبدو نور المئذنة المضاء شحيحا، في مواجهة شعاع الشمس، على حافة بلكونتها، تزداد حركة الحمامات، حول الميكروفون، الذي يوزع الأذان عند كل صلاة.
من بعيد تلوح لعيوننا الطاحونة المهجورة، بنصف مدخنتها الطوبي، الباقي بعد إزالة نصفها العلوى، تمهيداً لمحوها تماما، لتلحق بالمداخن الطوبية لبوابير الري، التي بيعت ماكيناتها خُردة، وحلت محل أبنيتها العملاقة أبنية طينية واطئة، كبيوت هاتيك النسوة، بأبوابها المصنوعة من جذوع الأشجار، وبزرائبها الملحقة بمؤخراتها، التي تسع بالكاد بعض الدواجن الطيارة، والبهيمة الوحيدة، مع كانون الطهو، وفرن الخبيز البلدي، وبين البيوت تفصل شوارع رفيعة، تؤدي غالبا إلى النهر.
وقبل كل طلعة شمس، تقذف هذه البيوت بنسوتها، وهن ممسكات بسباطات العام الفائت، يرجرجن أجسادهن وهن يكنسن الشوارع، أويغسلن الأواني والثياب في النهر، عقب رحيل رجالهن إلى الغيطان، مع بهائمهم القليلة وبعض الصغار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com