
القاهرة – محمد بربر
على أطراف محافظة الجيزة المصريّة، وبعيدًا عن الكتلة السكنية المليئة بضوضاء الحضر وزحام الناس، وعلى امتداد صحراء تنتقل بك إلى أزمنة سحيقة، يمكنك أن تزور قرية “برقاش” التي تضم أحد أكبر أسواق تجارة الجمال في مصر وأعرقها، ولا يتوقف الأمر عند مهنة يتوارثها الأبناء بل أصبحت بمثابة مزار سياحي للوفود السياحية التي تسعى لمشاهدة الأنواع المختلفة والأعداد الكبيرة للجمال في مصر، وتلك المنطقة استمدت اسمها من الجبل المحيط بها والمطل عليها “جبل برقاش”.
وهناك لا يمكنك أن تفرق بين كبير أو صغير، لأن المساحة الشاسعة للسوق الذي يضم أكثر من 2000 تاجر ينتشر فيه أهل الجنوب بكثرة وجنسيات أخرى من دول مجاورة يتاجرون في الجمال، وسط رواج كبير خصوصًا في مواسم عيد الأضحى، ومعظم المستهلكين يأتون من الصعيد ويقبلون علي الجمال البلدي، خاصة الصغير منها لإعداد الموائد لذويهم، كما يتوافد التجار لتوزيع الإبل على المحافظات الأخرى.
لهجات متنوعة وسلالات نادرة
يقبل المئات من الأشخاص على السوق الذي تتجاوز مساحته 25 فدانًا ويبدأ عمله في الخامسة فجرًا ويعمل حتى الثانية ظهرًا، ويصل عدد الجمال التي يستقبلها إلى حوالي 10 آلاف جمل، من أنواع مختلفة منها المصري وينقسم إلى فصائل عدة وكذلك السوداني والصومالي والمغربي والأثيوبي، ويعرض كل تاجر داخل المنطقة المخصصة له بضاعته، في مزيج من لهجات العرب والبدو والصعايدة وأبناء المدينة والدلتا ونقاشات لا تنتهي حول السلالات الفريدة من الجمال ومواصفاتها ومزاياها.
وجرى إنشاء سوق الجمال ببرقاش منذ حوالي 25 عاما، بعد أن جرى نقله من موقعه القديم، في سوق البراجيل، وتجري فيه عمليات البيع والشراء فى كل أيام الأسبوع، لكن المزادات تعقد يومي الجمعة والأحد، وذلك عن طريق أصحاب مكاتب للبيع والشراء يصل عددها إلى 30 مكتبًا ومعظم أصحابها من صعيد مصر وبعضهم من السودان، ويدفع الزبون لصاحب المكتب عمولة في حال باع جملًا له أو نجح في شرائه بمواصفات مميزة متفق عليها.
أسواق وباعة يبحثون عن أرزاقهم
وفي سوق برقاش، هناك أسواق صغيرة حيث ينتشر باعة للسكاكين والأدوات المستخدمة فى الذبح والسلخ إلى جانب توافر باعة للأقمشة التى تصلح لتفصيل الجلاليب الصعيدية، بخلاف أصحاب فرشات الشاى والساندوتشات، على هامش ذلك يمكن للزائر أن يجد الأطفال يعملون على إطعام الإبل أو استقبال الزبائن، وربما يندهش البعض من الأرقام الموضوعة على صدر كل جمل وهي المميزة له وسط هذا الكم الهائل من الجمال.
ويسرد محمد علي، صاحب محل جزارة من الجيزة، قصته مع السوق مشيرًا إلى أنه يتوجه إلى برقاش لشراء جمل أو أكثر من أجل ذبحه وبيع لحمه في ظل حالة من الإقبال الهائل على تناولها بين زبائنه، لافتًا إلى أن أبواب السوق مفتوحة طوال الأيام حيث تجري عمليات البيع والشراء بعد التوصل إلى سعر وسط بين البائع والمشتري بينما يومي الجمعة والأحد فإن نظام البيع يتحول إلى “مزاد” يشهد مشاركة تجار من ربوع مصر يأتون من أجل الحصول على احتياجاتهم من الجمال.
قواعد تحكم عمليات البيع والشراء
وأشاد علي بتعاون أهالي القرية مع الزائرين وكرم ضيافتهم فضلا عن القواعد التي تحكم السوق وكأنها ميثاق شرف بين التجار، وعلى سبيل المثال فإن الأسعار موحدة بالنسبة للسلالات المعروفة والمميزات الواحدة، كما أن الاحترام متبادل بين الجميع وحقوق المشتري محفوظة من قبل البائع لاسيما وأن هناك منافسة بين أصحاب المكاتب على جذب الزبائن لهم، ولكل تاجر مساحة معروفة لا يجوز أن يتعداها.
نبيل منعم، من محافظة أسوان، يأتي إلى السوق للتجارة منذ ثماني سنوات، يؤكد أن هناك الكثير من المميزات موجودة في القرية أبرزها أنه لا يمكن لزائر أن يعود دون أن يحقق مطلبه بسبب كثرة الأنواع والأعداد والأسعار المناسبة بطبيعة الحال وتعامل التجار مع الجزارين أو الزبائن أو أصحاب المكاتب.
وبيّن منعم أن أسعار الجمال شهدت في العامين الأخيرين تزايدًا كبيرًا بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف إلى جانب تكلفة النقل خصوصًا وأن بعض السلالات تأتي من محافظات بعيدة، مشيرًا إلى أن سعر الجمل الواحد يبدأ بحوالي 12 ألف جنيه وقد يصل إلى 30 ألف جنيه، وهناك الجمال الصغيرة وأسعارها تتراوح من 6 آلاف جنيه وحتى 12 ألف جنيه، ويرجع ذلك حسب الوزن وسلامة الناقة من الأمراض وعمرها وتميزها بين الجمال، وهناك أنواع عديدة منها البلدي والصومالي والربيعي والسوداني.
وأوضح أن هناك إقبالا كبيرًا على شراء لحوم الإبل لأنها تساعد في خفض نسبة الدهون، ونسبة الكوليسترول بالدم، وتحتوي على العناصر الغذائية المختلفة كما تعالج الأنيميا وفقر الدم، ولا تسبب مرض النقرس، كما تحتوي على مادتي “الكرياتين والكولاجين” المفيدتان للشعر، ومن ناحية أخرى فإن سعر كيلو اللحم البقري لا يقل عن 150 جنيهًا بينما كيلو لحم الإبل يتراوح من 80 إلى 100 جنيه.
“بيت الورد”.. ذاكرة الأمم والشعوب
وبعيدًا عن سوق الجمال، فإن القرية ذاتها شهدت فصولًا مهمة من تاريخ مصر الحديث وخصوصًا في حقبة الرئيس جمال عبد الناصر، فقد أنشأ الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل قصرًا له أطلق عليه “بيت الورد” وذلك في الخمسينيات وكان يحتوي على وثائق تاريخية، منها يوميات جمال عبد الناصر في حرب فلسطين عام ١٩٤٨، وعلى غلافها بقعة من دمه، ومراسلات الزعيم مصطفى كامل إلى السلطان العثمانى والخديو عباس حلمى، وغيرها. قرية سوق الجِمال، التي ربما لم يكن ليسمع عنها أحد غير التجار والجزارين، أصبحت مع هيكل قبلة للزعماء، فجاء إليها أسماء شغلت العالم وحفرت في ذاكرة الأمم والشعوب، أسماء كأيقونة الثورة في العالم، تشى جيفارا، والرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، بالإضافة إلى الزعيمين المصريين جمال عبدالناصر، الذي كان يفضل الجلوس في حديقة “بيت الورد”.
وعقب تعرض القصر للحرق قبل أعوام قليلة، تحدث هيكل عنه في برنامج تلفزيوني قائلا
“لأول مرة أعرف ما معنى كلمة شجن، وأشعر أن لدىَّ ما يضايق أكثر مما يمكن أن يعبر عنه بكلمات، خصوصاً وأنا لم أتحدث عن هذا الموضوع واعتذرت عدة مرات أن يتم تصوير المشهد في برقاش مسقط رأسى.. هذا المكان حافظت على خصوصيته في ازدهاره، ولا أستطيع أن أكشف عن هذا في محنته، فله حرمة الإنسان وحرمة الكلمة”.