المقالات

القادة التَّربويُّون والسّيرة الذاتيّة

في مكالمة هاتفية مع صديق “نفيس” أخذنا بأطراف الأحاديث حتى ساقتنا إلى نقاش حول السِّيرة الذاتيَّة، والسِّيرة الذاتيَّة التي دار بيني وبين صاحبي الحديث عنها، ليست هي تلك السِّيَر ذات الصِّبغة الأدبيَّة التي يكتبها البعض عن أنفسهم أو عن غيرهم، وإنما هي السِّيرة الذاتيَّة بمفهومها في العُرف السَّائد الآن “Curriculum Vitae” مجرى الحياة، أو إن شئتَ مسار الحياة بحسب ترجمة المصطلح المختصر في حرفين (CV). وهي كما يُعَرِّفونها “وثيقة تتضمَّن مُوجزًا أو قائمةً بالوظائف ذات الصِّلة بالخبرة والتَّعليم، وهي أول ما يتم عرضه في اللقاء بين صاحب العمل المحتمل وطالبي الوظائف، وتُستخدم عادة لفرز المتقدمين، وغالبًا ما يعقبها مقابلة أو أكثر في حالة البحث عن وظيفة”.
ولن أكتم القارئ الكريم سِراً فقد انتابتْني خلال حديثي مع الصَّديق العزيز حالةٌ من الانفعال ــ المحمود في ظني ــ بسبب الحوار حول كتابة السِّيرة الذاتيَّة، حيث كان يُلِحُّ عليَّ أن أُعنى برصْد الــcv الخاص بي، مع يقيني بأنه ينطلق في ذلك من حرص بالغ واهتمام مُحِبٍّ! ولعل القارئ الكريم يتعجل ليعرف سبب انفعالي من هذا النقاش، ولكنني على يقين بأنه سوف يُدرك أسبابَه حين يَفرغُ منَ القراءة، وله أن يتَّفق معي أو أن يختلف!
والمهم أنَّ ذلك الحوار أغراني بالكتابة عن السِّيرة الذاتيَّة، وإفراغ التصور الذي يتملكني حول مفهوم السِّيرة التي يُمكن لمن يعمل في التَّربية والتَّعليم وبخاصة في مجال (القيادة التربويَّة التعليميَّة) أن يكتبها عن نفسه. فهممْتُ بكتابة هذه المقالة، وعزمت على إخراجها كيفما اتفق!
وعندما بدأت في الكتابة وجدتُني مُنجذبا للتَّعريف بمفهوم السّيرة الذاتيّة المفهوم القديم المتجدِّد، وهو ما أشرت إليه سابقا بالسّيرة ذات الصّبغة الأدبيّة والمفهوم السَّائد الآن في سوق العمل ويُمكن أن أسميه (الوظيفيّ). وهذا النَّوع من السّير هو بلا شك فرع عن السّيرة الذاتيّة الشَّاملة (الأدبيَّة) التي تستغرق حياة كاتبها إذا كان يكتب عن نفسه، او حياة غيره إذا كان يكتب عن الغير (ذاتيَّة وغيريَّة).
وكتابة السّيرة بمفهومها الأمّ (الأدبيّ الشُّموليّ) يُعدُّ جنساً من الأجناس الأدبية النَّثريَّة مثل الرواية والقصَّة القصيرة والمسرحيَّة والمقالة.. وقد ظهر قديما جدا عند العرب وعند غيرهم من الأمم التي عُنيَت بالفكر والفلسفة والأدب. “فقد عرفت اليونان البدايات الأولى لكتابة السّيرة الذاتيّة، وتمثَّل ذلك فيما ورد في أثناء كتابات الفلاسفة وغيرهم من مقتطفات شخصيَّة من الكتابة عن الذات، على نحو ما نجده لدى (جالينوس) وقد عُنى اليونانيون بالسّيرة الغيريّة أكثر من اعتنائهم بالسّيرة الذاتيّة، إذْ كانوا يُعنون بمرحلة النُّضج أو الذُّروة في حياة الفرد”.
أما العرب ـــ وهم شامة في جبين كلّ الأمم ـــ فإنني لا أُجانب الصَّواب ولا أخرج عن الجادَّة إذا قلت إنَّ الشِّعر أو أكثره منذ العصر الجاهليّ كان يُمثّل سِيراً ذاتيّة لأصحابه وربما لأقوامهم! ولا غروَ (فالشِّعْر ديوان العرب) فهذا امرؤ القيس أول الشُّعراء الذين وصلنا قريضهم يدون ملامح من حياته ابتداء من:
ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْـعَذَارَي مَطِيَّـتِي فَيَا عَجَباً مِنْ كورها المُتَحَمَّلِ
فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِيْـنَ بِلَحْـمِهَا وشَحْـمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْـسِ المُفَتَّـلِ
ويَوْمَ دَخَلْـتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْـزَةٍ فَقَالَتْ لَكَ الوَيْـلاَتُ إنَّـكَ مُرْجِلِي

مرورا بقوله:
فلو أنَّ ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلبْ قليلٌ من المال
ولكنما أسعى لمجْد مؤثَّل وقد يُدْركُ المجْدَ المؤثل أمثالي
وانتهاء بقوله:
بكى صاحبي لما رأي الدَّربَ دونَه وأيقن أنّا لاحقان بقيْصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول مُلْكا أو نموت فنعذرا
ولن يتعنى القارئ الكريم في إدراك الفرق بين المراحل التي عاشها امرؤ القيس وصورتها تلك الأبيات..
وهذا طَرفة بن العبْد البكريّ يُصوّر لنا جانباً من حياته، حيثُ يقول:
وَلَوْلَا ثَلَاثٌ هُنّ من عيشَة الفَتى وَجَدِّكَ لم أحفِلْ متى قامَ عُوّدي
مِنْهُنَّ سَبْقِي العَاذِلاتِ بشَرْبةٍ كُميتٍ متى ما تُعلَ بالماءِ تُزْبدِ
وَكَرّي إذا نادى الْمُضافُ مُحَنَّبًا كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتَهُ الْمُتَوَرِّدِ
وتقصيرُ يومِ الدَّجنِ والدَّجنُ مُعجِبٌ. ببَهْكَنَةٍ تَحْتَ الطِّرَافِ الْمُعَمَّدِ
وكذلك كان حال غيرهما من الشُّعراء في مختلف العُصور، فهذا أبو الطيِّب المتنبي لا تكاد تقرأ له قصيدةً إلا وتراه ماثلاً فيها! فاستَمعْ إليه يقول:
أُطاعنُ خيلاً من فوارسها الدهرُ وحيداً وما قولي كذا ومعي الصَّبْرُ
وأشجعُ مني كلَّ يومٍ سلامتي وما ثبتتْ إلا وفي نفسِها أمْرُ
تمرَّسْتُ بالآفات حتى تركتُها تقول أماتَ الموتُ أم ذعرَ الذُّعْرُ
ذر النَّفْسَ تأخذ وسعَها قبل بينها فمفترقٌ جاران دارهما العمرُ
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافةَ فقر فالذي فعلَ الفقْرُ
أو حين يقول:
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفُني والسَّيفُ والرُّمحُ والقرطاسُ والقلمُ
صحبتُ في الفلوات الوحْشَ منفرداً حتى تعجَّبَ مني القورُ والأكمُ
“ويُعدُّ (حنين بن إسحاق ت 260) من أوائل من طرق باب السّيرة الذاتيّة في الأدب العربيّ، إذْ تأثَّر (بجالينوس) اليوناني برسالته التي صوَّرَ فيها ما لقيه من محَن وشدائد من بعض نظرائه، وأبناء حرفته، وحتى أقاربه بسبب ما نال من حظوة عند الخليفة العباسيّ المتوكّل”. ويأتي كتاب (الاعتبار) لأسامة بن مُنقذ يتربَّعُ القمَّة في كتابة السّيرة الذاتيَّة بين الأدباء العرب قديما.
وفي العصر الحديث كتبَ كثير من الأدباء العرب في هذا الفنّ، ولعلَّ من السّير الذاتية “التي لقيت شهرة واسعة كتاب (الأيام) لطه حسين، إذْ عَدَّ بعض النُّقاد العرب كتابَه هذا بمثابة النَّصّ التأسيسيّ الأول في السّيرة الذاتيّة العربيّة الحديثة”.
وفي المملكة العربية السعودية وجَدَت الكتابةُ في السّيرة الذاتيّة عنايةً واهتماماً فائقين من كثير من الأدباء والسياسيين، ولعلي أكتفي هنا بالإشارة إلى كتاب (حياة في الإدارة) لصاحبه الدكتور غازي القصيبي ــ رحمه الله ـــ الإنسان، ورجل السياسة والإدارة، والشاعر، والروائي.
وبالعودة إلى السّيرة الذاتيّة من منظور الـمفهوم السَّائد الآن للــ CV المتعارف عليه في مجال العمل. فمنذ زمن ليس بالقصير انتشر ما يُعرف بجوائز الأداء، وجوائز التميز في عديد المجالات الإدارية والتعليمية، سواء في القطاعات الحكومية أو الخاصة أو القطاع الثالث (غير الربحيّ).. الخ ومع ظهور هذه الجوائز بدأت المنافسات والسباقات المحمومة للظَّفر بها او بنصيب منها، ومع انتشار الشَّركات بمختلف أنواعها، ازدادت الحاجة إلى فرز وتصنيف المتقدمين إلى العمل فيها بُغية اختيار الأفضل، وفي ذات الوقت ومع توسُّع العمل في القطاعات والمصالح الحكومية وحتميَّة البحث عن الكوادر القياديَّة المتميّزة لإدارة مهماتها، تأكَّدت الحاجة إلى وجود مادة مكتوبة (CV) يحملها كلُّ من يرجو وظيفة في شركة، أو يبتغي منصباً في وزارة أو مصلحة حكوميَّة، أو يروم الفوزَ بجائزة ما.. ليقدمها بين يدي طلبه، فانتشر هذا المفهوم الجديد (الوظيفي) وغدا هو المتبادر إلى الذهن حين يقال (سيرة ذاتيَّة)!
إذاً ــ ومن هذا المنظور ــ فإن “السّيرة الذاتيّة هي بوابة العبور إلى الوظيفة المطلوبة وهي بمثابة المتحدث الرسمي لطالب العمل، وصياغتها بالشكل المناسب يساعد طالب العمل في الحصول على الوظيفة المناسبة بأسرع وقت (إذا يسَّر الله له الأمر) كما تعتبر السيرة الذاتية حلقة الوصل بين صاحب العمل والباحث عن العمل؛ فهي (ترصُد) مهارات وإنجازات الباحث عن العمل، وقدراته العلمية والعملية، وأهم مميزاته، مع الأخذ بعين الاعتبار توافق المهارات مع المتطلبات الوظيفيّة المطلوبة. وتدوَّنُ فيها خبراته ومؤهلاته الأكاديمية والمهنيّة، وهي من الناحية الوظيفيّة سرْدٌ للمعلومات بشكل واقعيّ علميّ يسمح لصاحب العمل بتكوين انطباع مبدئي عن الباحث عن العمل قبل إجراء المقابلة الشخصيّة معه.”
وبالعودة إلى حديثي مع صديقي، ذلك الحديث اللَّطيف الذي تطفَّلت عليه (السّيرة الذاتيَّة) بهذا المفهوم (الوظيفيّ) وليس من ذلك المنظور الذي خُضْت فيه مُشيرا نحو بعض الشُّعراء، ومُعرجا على عدد من الفلاسفة والأدباء.. فقد سألته:
بربِّك، كيف للتربوي وبخاصة من استثمر أجمل عمره في (القيادة التعليمية) أن يُدوِّن سيرته الذاتيَّة؟ ومن أيّ باب يطرُقها؟ وكيف يستطيع رصْد ملامح النَّجاح الحقيقيّ فيها؟ أو كيف له أن يسجِّل المنجزات ذات القيمة الأهم فيها.. الخ؟!
ذلك لأنه إذا كانت السّيرة الذاتيّة بصبغتها وصيغتها الأدبيّة تمنحُك القدرةَ على بثِّ روحك، وتصوير ملامح حياتك، ورسم صورة حيَّة عن ذاتك.. انفعالاتك ومشاعرك.. ونظرتك لكل شيء.. فإن السّيرة الذاتيّة (الوظيفيّة) بصورتها المتعارف عليها لا تفعل ذلك! وإنما توثق مراحل ظاهرة، وترصد مكتسبات محسوسة، وتدوِّن أعمالا ملموسة قد يشاركك فيها كثير من الناس، في حين أنك تعلم يقينا أن بينكم اختلافا كبيرا في التعاطي معها، وبونا شاسعا في آثارها وتأثيرها..! وإذا كان الأمر كذلك فإن (القائد التعليمي التربوي) مهما اجتهد في صَوْغ السّيرة CV لتكونَ صادقةً في تمثيله، وتعبيرها عن ذاته، فإنني على يقين أنها لن تُحقّق مبتغاه، وسوف تُخْفِق في رسم صورة صادقة عن حقيقة مُنجَزه، وإن كان كلُّ ما دُوِّن فيها واقعيا! حتى وإن نجحت في إعجاب من اطَّلع عليها، وحازت رضا من قرأها!
ولتفسير ذلك، أقول: إنَّ السِّيَر التي تُدوَّن بُغْيَة توثيق الملامح والمنجزات في الرِّحْلَة العلميَّة والعمليَّة لمن يعملُ في التَّعليم، إنما تنجحُ في رصْد تلك المحطَّات التي تُدركُها الحَواسُّ، وبخاصَّة لمن كان عملُه في مجال القيادة التَّعليميَّة التَّربويَّة؛ ذلك لأنَّ المنجزات العُظْمى لأيّ قائد تربويّ ناجح ــ بحسْب المستويات القياديَّة التي مارسها ــ لا يُمْكنُ بحال أن تُكتبَ في هيئة الصُّورة المتعارف عليها في توثيق السِّيَر التي تَرْصُدُ محطَّات الرِّحلة العمليَّة بهدف تقديمها لخوض تجارب عمليَّة جديدة؛ فهيَ مُنجزات ذات تأثير تربويٍّ ونفسيٍّ وفكريٍّ وثقافيٍّ وأخلاقيٍّ.. يُسهم في تشكيل هُويَّة المستفيد وبناء شخصيَّته عبر الوقت، وخلال المواقف والممارسات التي تَصْدُرُ عن وَعْيٍ منَ القائد نفسِه.
ولا يبقى للقائد التربويّ مما يُمكن رصْدُه وتوثيقه ـــ حين يرغب في تدوين سيرته العلميَّة والعمليَّة ـــ إلا المنجزات الحسيَّة وهي ـــ وإنْ كان فيها ما يستحقُّ التدوين لأثره الإيجابيّ ونفعه الظَّاهر ـــ فإنها تظلُّ في الحقيقة دون ذلك المنجَز العظيم الذي ذاب وتسرَّب بلُطْف في العقول والأرواح التي عمل معها ومن أجلها، وبذل لها ذوْبَ نفسه، وخلاصة تجاربه، وصفوة خبراته!
إنَّ ذلك المنجَز وإن عجزت الكلمات المكتوبة في كُلّ CV عن حمله أو توثيقه، فإنه بلا شك قد سُجَّل في المكان الأجدر به، ووثِّقَ في ذاكرة الزَّمن، وفي قلوب وعقول وَعَتْه في حينه، وقادرة بإذن الله على إعادة إنتاجه بما تضفي عليه من جِدَّة تناسب طبيعة المرحلة التي تعيشها وتلبي احتياجاتها..
ولعلَّ صاحبي حين يطَّلع على هذه السُّطور ويتأمَّل ما فيها ــ على علاته ــ سوف يدركُ حقيقةَ ما ذَهَبْتُ إليه في قناعاتي.. فيتَّفقُ أو يختَلفُ.. ويبقى الودُّ بيننا قيمةً فارقةً لا ينزعُها الاختلاف في الرأي، بل يزيدُها نضارةً وبهاءً.

مكة المكرمة الاثنين 8 ربيع الآخر 1445هـ المصادف 23 أكتوبر 2023م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com