منتدى القصة

قراءة في (عائد من القبر) لـ”بخيت طالع الزهراني”

قراءة.. وفاء عمر بن صديق

تنطوي العتبات النصية في أي عمل أدبي على أهمية بالغة؛ لارتباطها العميق بمضمونه، فهي تُساعد على فك شفراته، واستخراج مكنوناته عبر جملة من العناصر من أهمها: (العنوان) الذي يُهيئ للقارئ الولوج إلى النص، والتجوّل في أركانه من خلال دلالته على المحتوى.
وعند الوقوف على عنوان المجموعة القصصية (عائد من القبر) للكاتب بخيت طالع الزهراني، سنعتقد بأنها تدور في فلك الموت وعالمه، ولكن عند قراءة العمل المكون من جزأين: (الجزء الأول: ٢١ قصة قصيرة، والجزء الثاني: ٤٥ قصة قصيرة جدًّا) سنتفاجأ بأن الكاتب تميز بطرح محاور متنوعة تضرب في عُمق الحياة الإنسانية والاجتماعية بحالاتها المختلفة: القريبة من الموت أحيانًا، والبعيدة عنه أحيانًا أخرى.

ومن القضايا التي تمحورت حولها بعض القصص قضية الإصرار على الحياة ومقاومة بؤسها، والتي تطرق إليها الكاتب بعدة أوجه، وعبر شخصيات بسيطة ففي قصة (خائف يترقب) وبأسلوب الراوي العليم الذي أدخلنا إلى تفاصيل حياة الخائف المتسول الذي عاش مجبرًا على هامش الحياة، وصراعه مع المجتمع؛ لإيجاد مهنة تحفظ له كرامته، وانتصاره على شقائه بزواجه بالمرأة التي كان يرى فيها طوق النجاة بالرغم من رجليها المبتورتين ص١٥: “وبعد عام خرج من ذات المستشفى، وبين يديهما مولودهما الأول”.
وفي قصة (شتاء دافئ) جمع المكان بين شخصية (حمدان) وابنة الأرملة إلى جانب ألم الفقد، ونكبة السيول التي أغرقت منزليهما؛ فيقهران صور الموت بالزغاريد المعلنة زواجهما ص٢٩: “بعد أسبوعين تصدح الزغاريد في بيت الأرملة”.
كذلك تطرق الكاتب إلى قضية تجريم الحب ومحاولات اغتياله إما من قبل المجتمع أو من قبل الظروف كما في قصة (جبروت الطغاة)؛ حيث صُوّر حدث تنفيذ الحكم على الشاب المتهم بالحب بمشهدية متفردة، ورمزية عالية ذات دلالة عميقة على مدى الجبروت والطغيان ص٢٨: “أُضرِمت النار، احتشد القوم، الشاب يتأمل المشهد بهلع…”
أما في قصة (الرحيل المر) تولّت شخصية الشاب سرد الأحداث بضمير المتكلم؛ لتصف بدقة معاناة العيش تحت وطأة الظروف العائلية التي أدّت إلى إجهاض حبه ص٦٢: “..نهضت من فراشي والركب تهيأ للرحيل، لم يكن أمامي من خيار سوى الانتظام في رحلة العودة..”
ولقد طُرحت قضية الموروثات البالية وعلاقتها بالسياق الثـقافي في المجتمع بأسلوب رمزي وبسحر فانتازي؛ حيث دارت قصة (شياطين الوادي) حول طقوس متوارثة يُجبر الخال فيها ابن أخته على تأديتها، وهي المرور بقطيع الأغنام أمام السد حفاظًا عليه، وجاءت النهاية دليلًا قطعيًّا على الأوهام التي عاشتها العقول لعقود طويلة ص٤٢: “أسرعت أعبر بالقطيع الصغير … في الرمق الأخير، انفجر السد”.

كذلك تناولت قصة (الخاتم المنحوس) الوهم الذي عاشه (سليمان) بعدما أعطاه الشيخ خاتمًا يُحقق له ما يتمنى، وتصاعدت وتيرة الصراع داخل الشخصية؛ لخوفها من المساءلة القانونية في حال تحقق تلك الأماني؛ وتأتي النهاية الصادمة له بأن كل ما عاشه كان مجرد سراب ص٤٦: “بعد تردد، قرر أن يفرك الفصّ. أُثري وهمًا”.
كما عُرضت قضية عدم اكتمال الحياة، وحقيقتها القائمة على التناقض في القصتين: (فرحة مشروحة) و(الرفيق الغريب) بأسلوب سردي سلس، ونهايات مدهشة تعلق في الأذهان، فذاك الطفل الذي لم تكتمل سعادته بثوبه الجديد، ولم تمهله الحياة الزهو به وسط رفاقه؛ حيث تتلاشى فرحته عند اكتشاف ما فعله المقص به ص٧٠: “وعندما ارتدى ثوبه الجديد. وجده مشمورًا إلى منتصف الساق”.
وتلك الابنة التي عاشت حياة مريرة في ظلّ توالي المصائب عليها؛ لتقضي بقية حياتها بجانب رفيقٍ تهتم به وترعاه، لتكشف النهاية بأنّ هذا الرفيق الغريب في آن واحد هو الأب المصاب بـ(الزهايمر) ص٧٦: “..نهضت مستديرة نحو المسن، وبلغة آمرة، قالت: قم يا أبي..؟”

إنّ هذه المجموعة القصصية تميّزت بزخم كميٍّ ونوعيٍّ، فكثرة عدد القصص فيها، وتعدّد موضوعاتها التي اشتملت على جوانب عديدة يجعل من الصعوبة الإلمام بها جميعًا في مقال واحد ولو كان من باب الإشارة فقط؛ فجلّ ما طُرِح هنا هو عبارة عن إضاءات على القليل ممّا يحتويه هذا العمل الذي يقول لسان حاله بأنّ الموت والحياة وجهان لعملة واحدة.

تعليق واحد

  1. قراءة راقية ومدهشة في الوقت نفسه جداً رائعة لك كل التقدير والتألق أ. وفاء عمر على هذه القراءة التحفيزية لاقتناء الكتاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى