المقالات

البصمة الوراثية وتحرير الجينوم في ضوء الشريعة الإسلامية: قراءة علمية في وثيقة الكويت الدولية

الحمد لله الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، وسخّر له أدوات النظر في آيات الخلق، وفتح له أبواب البحث في أسرار الخليقة، وجعل الشرع هاديًا للعلم، وحاكمًا على منجزاته، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذي جاء بشريعة ربانية، رحيمة، متوازنة، تُراعي الفطرة، وتزن الأمور بميزان المصالح والمفاسد، وتفتح باب الاجتهاد بضوابطه في مستجدات الزمان.

في مرحلة دقيقة من تاريخ العلم، حيث بلغ الطب الوراثي ذروته، وتقاطعت تقنيات الذكاء الاصطناعي مع أدوات تحليل الشيفرة الوراثية للإنسان، جاءت وثيقة الكويت الدولية، الصادرة عن المؤتمر الدولي السابع عشر للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية (الكويت، 14–17 مايو 2025)، لتشكّل مَعْلَمًا علميًا شرعيًا فاصلًا، في ضبط التعامل مع قضيتي البصمة الوراثية وتحرير الجينوم.

أولًا: جهود مقدّرة ومؤتمر نوعي

لا يسع الباحث المنصف إلا أن يُشيد بجهود المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية التي كانت –وما تزال– في طليعة المؤسسات التي تجمع بين الفقهاء والأطباء والباحثين والقانونيين في معالجة نوازل الطب من منظور شرعي علمي رصين.

وقد جاء هذا المؤتمر –الذي نُظّم تحت رعاية سمو ولي عهد دولة الكويت الشيخ صباح خالد الحمد الصباح حفظه الله– ليؤكّد على الدور الريادي لهذه المنظمة المباركة، بقيادة الأستاذ الدكتور محمد الجارالله، رئيس المنظمة، وبتنسيق علمي محكم من معالي الأستاذ الدكتور عبد اللطيف المر، الأمين العام المساعد.

ثانيًا: توطئة فقهية

قبل استعراض خلاصات المؤتمر، يجدر التذكير بأن الشريعة الإسلامية لا تُعارض العلم الصحيح، بل تحتضنه وتوجهه، كما أنها لا تُغلّب الظن على اليقين، ولا تقبل أن يُنسب للشرع ما ثبت بطلانه حسًّا أو عقلًا.

ولذا فإن البصمة الوراثية –بما توصل إليه العلم الحديث– لم تعد مجرّد “قرينة قوية” كما كان يُعبّر سابقًا، بل أصبحت في كثير من تطبيقاتها دليلًا قطعيًّا يُضاهي في قوته حجج الفراش والإقرار والشهادة، بل قد يتفوّق عليها في بعض الحالات من حيث إفادة اليقين.

ثالثًا: القرار الشرعي الصادر عن المؤتمر

بعد استعراض الأوراق العلمية والطبية والشرعية، والمداولات الفقهية المتخصصة، أصدر المؤتمر حزمة من القرارات العلمية الشرعية، نلخّصها فيما يلي:

1. في قضية تحرير الجينات:
• يجوز شرعًا استخدام تقنيات تحرير الجينات في علاج الأمراض الوراثية مثل التليف الكيسي والهيموفيليا، شريطة التحقق من سلامتها، وأمانها، وعدالة توزيعها.
• يُمنع استخدامها لأغراض غير علاجية، مثل “تحسين النسل” أو “تصميم الأجنة حسب الطلب”، لما في ذلك من تغييرٍ لخلق الله، ومساسٍ بالكرامة الإنسانية.
• ليس كل تغيير في الخلق محظورًا، بل يُنظر فيه إلى مقاصده ونتائجه، فإن كان لتحقيق مصلحة شرعية معتبرة (كالتداوي والوقاية)، ولم يكن فيه محظورٌ شرعي، جاز؛ كحال الختان ووسم الدواب والقص والتزيين المشروع.

2. في قضية البصمة الوراثية:
• أكّد المؤتمر أن البصمة الوراثية –في ضوء التطورات العلمية الأخيرة– بلغت من الدقة ما يجعلها دليلاً قطعياً في إثبات النسب ونفيه، بنسبة خطأ لا تتجاوز (1 في المليار).
• أوصى المؤتمر برفع توصية إلى مجمع الفقه الإسلامي الدولي، والأزهر الشريف، ودار الإفتاء المصرية، لإعادة النظر في بعض القرارات السابقة، التي كانت تمنع نفي النسب بالبصمة الوراثية، نظرًا إلى ما طرأ من تقدم علمي، وتحولات اجتماعية، واستدلالات شرعية دقيقة.
• شدد المؤتمر على أن قاعدة “الولد للفراش” ليست مطلقة، بل قد تُخصّص باللعان أو بالبينات القطعية، كحال البصمة الوراثية في العصر الحديث.

رابعًا: التأصيل الفقهي والاجتهاد الجماعي

لقد أعاد المؤتمر التأكيد على أن الشريعة الغرّاء لا تُثبت نسبًا يُعلم يقينًا بطلانه، ولا تُغلق باب التحقق من النسب عند اختلال الفراش أو وجود قرائن قطعية على انتفاء الأبوة، مستدلًا بأحاديث نبوية صحيحة، وأقوال محققي الفقهاء، ومنها:
• قول النبي ﷺ: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم…»
• وقوله في شأن الشبه: «انظروا إليها، فإن جاءت به أبيض سبطًا…»

وهذان الحديثان وغيرهما يدلان على جواز التحري والتثبت في النسب، لا سيما عند وجود خلل أو شبهة، كما في الزنا أو الاغتصاب.

خامسًا: دعوة للتكامل بين المجامع والمؤسسات

إن هذا القرار العلمي الفقهي يمثّل دعوة واضحة للمجامع الفقهية الكبرى إلى التنسيق مع المؤسسات العلمية والطبية، من أجل إنتاج فقه معاصر متأصل، يراعي الثوابت ويقرأ المتغيرات، ويتعامل مع أدوات العصر بمنهج “الضبط لا الرفض”.

وقد شددت الوثيقة على ضرورة وضع إطار قانوني وأخلاقي دولي لحماية الجينات من العبث أو التسليع أو الاستغلال السياسي، وصيانة خصوصية الإنسان وكرامته.

خاتمة:
إن وثيقة الكويت لا تمثّل مجرد توصيات علمية، بل تؤسس لاجتهاد مؤسسي جماعي، يعيد الوصل بين العلم والوحي، ويضبط اندفاع التقنية بضوابط الشريعة، ويجعل من “البصمة الوراثية” و”تحرير الجينوم” قضيةً فقهيةً أخلاقيةً كبرى، لا تقف عند حدود المختبرات، بل تتصل بمصير الإنسان وهويته وكرامته.

فنسأل الله تعالى أن يوفق العلماء والفقهاء لحسن البيان، وحُسن الفهم، وحسن التوجيه، وأن يجعل هذه الوثيقة خطوة مباركة نحو تأصيل فقه الحياة في ضوء شريعة الإسلام ومصالح الإنسان.

والله ولي التوفيق.

• رئيس اللجنة الشرعية في المجلس الأوروبي للهيئات والمراكز والقيادات الإسلامية

أ.د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى