
لقد مضى على تناول وجبة الإفطار خمس ساعات.
إني أتضور جوعًا وأكاد أبتلع السواك لأخفف من غلواء المعدة.
تبقى نصف ساعة على نهاية الدوام، لم تمضِ ربع ساعة منها حتى دلف سعد.
• غداء؟
• الكلفة عليك؟
• نعم، إذا كانت الوجبة من لحم الدجاج، ولا إذا أردت لحم الغنم.
• الدجاج لا بأس به، نخرج الآن؟
• عشر دقائق بالضبط وسآتيك لنخرج.
مضغت قشر السواك بنشوة، وهدأت لتوها معدتي، وعيناي تومضان، وأنفاسي العميقة تخللتها نفثات نصر.
ها أنذا أوفر مال الغداء بأقل جهد. كان سعد وما زال مصدرًا لتوفير المال لأنه يبحث دائمًا عمّن يستمع إليه، وها أنذا أقوم بالمهمة كل مرة.
من يجيد الاستماع يوفر المال دائمًا.
مضت العشر دقائق سريعًا، وأقبل سعد بلهفة لنتجه معًا إلى مركبته قاصدين المطعم التهامي، حيث مظبي الدجاج ومرق اللحم من دون لحم بالطبع.
منذ حضور الأطباق حتى ذهابها، وسعد لا ينفك عن الحديث وعن عزف تأوهاته. هذه المرة كان الحديث خاصًا جدًا، عن مشكلة عويصة حدثت مع زوجته قبل أيام، اضطرت فيها إلى ترك البيت له.
طالت سيمفونيته وبدأت إيقاعاته بالتضخم حتى تلألأت عقد جبينه.
• سعد، لقد جف حلقك، ما رأيك بشاي حطب؟
• رأي جيد.
حينما يقصدك أحدهم للبوح والاستئناس برأيك، فإنك تغدو له كولي.
هنا تظهر الغطرسة البشرية والضعف الإنساني.
هنا تلتحم المتغايرات.
هنا الشمس والقمر.
هنا المسك والورد.
هل شممت مسكًا خالصًا من قبل؟
إنه أشبه برائحة تعفن: صديد حيواني وقيح ودماء أصابها العطن.
مع ذلك تعجبني رائحته إن مزجته بزيت الورد.
إن مسك سعد أندر ما يكون، وإن وردي حين يمازجه يصبح غالية لا تقدر بثمن.
أستمع بحق وصدق، وستجد من المتحدث كل شيء: السؤال والجواب، الحزن والسعادة، المشكلة وحلها، الداء والدواء.
إن البشر لا يتقنون محادثة أنفسهم فضلًا عن الاستماع لبواطنهم حين تهمس لهم.
تراهم يهرعون نحو المستمعين، تلك القلة القليلة من البشر.
كان طعم الشاي المنكه بالنعناع والحَبَك لذيذًا جدًا، حتى أنني أرغمت سعدًا على العودة إلى صاحب الشاي وطلب كوب آخر. أما سعد فقد تثلج شايه بفعل تيار هواء المركبة البارد.
• سعد، اشرب شايك، لقد تثلج. صدقني، الحديث لن ينقطع وكذلك مشاكل العالم.
ببراءة طفل رد: إن شاء الله.
ارتشف الشاي بسرعة واضطراب، وعاد دولاب الحديث من جديد للدوران.
الدوران الذي لا يوقفه سوى نصائحي لحل المشكلة، والتي أستقيها وأستلهمها من كلمات الظل التي يقولها دون وعي منه.
كانت نصائحي وتعليقاتي بمثابة بلسم له، تخبرني بذلك سحناته.
لقد أخبرته بالعلاج الناجع الذي يحتاجه، فشكرني لذلك أشد الشكر، ولا يدري أن الشكر لا بد وأن يكال له؛ فهو من سرد بكلماته وصف الدواء. ولكن لأنه لا يستخدم سوى لسانه، فإن أذنيّ قامتا بهذه المهمة.
بعد شهر بالضبط من هذا اليوم الذي تحدث فيه سعد عن مشكلته، فاجأني بهدية ثمينة مغلفة بغلاف جميل، جلبها من مطار “سير رامغولم الدولي” حيث عاد من جزيرة موريشيوس بعد إجازة استجمامية مع زوجته.
كانت الهدية عبارة عن سماعات أذن للهاتف المحمول مطلية بالذهب.