عام

الشاعر عبدالواحد ومرحلة (حنّا لها)

عرفت الشعر الشعبي منذ صغري، فقد كان والدي -رحمه الله- يصدح بالطرق الجبلي الجميل، وأيضًا كان يسرد عليّ قصصًا كثيرة يتخللها أبيات من قصائد جميلة ذات معنى اجتماعي، أو تكون قصائد حماسية لشعراء أقوياء شعرًا وتركيبًا وتصويرًا للأحداث والوقائع مثل (الزبير، وأبو جعيدي، ودغسان أبو عالي، والغويد وغيرهم).

ثم انقطعت عن تلقي الشعر ومتابعته بعد وفاة والدي – رحمه الله – فلم أجد أحدًا يلقي عليّ تلك القصص وتلك القصائد ويسردها لي، فالتَهَيتُ في الدنيا والدراسة، حتى حضرت حفلة للعرضة الجنوبية (في بني ظبيان بغامد) كان يتواجد فيها الشاعر عبدالواحد الزهراني. كنت وقتها في المرحلة الثانوية، وكنت أسمع بعبدالواحد، ولم أكن حريصًا وقتها على حضور الحفلات وغيرها، كما قلت سابقًا: الدنيا والدراسة.

بدأت الحفلة، وبدأ التجمهر، وبدأت نشوة صوت الزير، وبدأت مزامير الحفل، وكأنك تشاهد طوابير من الجيش تستعد للحرب، ليكتمل العقد بصوت طروب شجي وأبيات قوية تكمل صورة المشهد العظيم. إنه صوت الفتى الأنيق عبدالواحد، لألتفت لمن حولي وأقول: “هذا عبدالواحد، صح؟” سؤالٌ بريء من شابٍ انقطع عنه تلقي مثل هذه الأبيات الجميلة القوية منذ وفاة والده.

يا الله! ماذا صنعت بهذا الشاب المراهق يا عبدالواحد؟ بقي يتابع كامل الحفل، ويتابع كل بيت يقوله ذاك الشاعر، مع إطلالته الرائعة الأنيقة الجنوبية الرجولية. أبيات المدح والحماس يجمعها عبدالواحد، ولا يفرق بين غامد وزهران، وإن أتيت للغزل فحدِّث ولا حرج. منذ تلك الحفلة بدأت في مطاردة حفلات عبدالواحد في كل ميدان، لأجده متألقًا دائمًا، والحفلة التي لا أستطيع حضورها أبحث عن شريط التسجيل لها.

عبدالواحد أحدث نقلةً نوعيةً في شعر العرضة الجنوبية، فقد ربط بين الماضي والحاضر من خلال تجديد قصائد المسيرات التي من خلالها تحدّث بكل اقتدار عن المجتمع وأوضاعه وهمومه.

كذلك، استطاع عبدالواحد بشخصيته وقبوله أن يربط بين الشعر في منطقة الباحة، الذي يتميز بإخفاء المعنى والترابط في الأبيات والمحسنات الشعرية، مع الشعر في منطقة عسير، الذي يتميز بالهجوم المباشر والقوي (إما أن تصمد أو تودع الملاعب بكل صراحة). تفوّق عبدالواحد ونجح في كل مجالاته.

لتأتي فترة بدأت فيها ساحة العرضة الجنوبية، خصوصًا في منطقة الباحة، تخذل عبدالواحد. أصبحت ساحة للسماسرة والمتسلقين على العرضة الجنوبية، وأصبح الشعر فيها هزليًا سطحيًا، واختفت معالمه الجميلة. هذه وجهة نظري الشخصية.

“اعتزل عبدالواحد؟ لم يعتزل عبدالواحد؟”
مقولة ضجت في تلك الساحة الشعبية التي أصبحت متهالكة، إلا من بعض شعرائها الذين يحاربون لأجلها. لكن من وجهة نظري، ولأني متابع منذ عشرات السنين، أقولها بصدق وألم: تلك الفاتنة (العرضة الجنوبية) أُصيبت بالمرض وتغيرت ملامحها.

ترجَّل فارسها عن جواده وغاب عنها. بين فينة وأخرى، تسمع له قصيدة في مجلس، يتداولها الناس في جوالاتهم، ويقولون: “آه على أيامك يا عبدالواحد”.

ليفاجئهم ذاك الفارس بإطلالة قوية مهيبة في محفل يجمع شعراء القلطة وشعراء المحاورة. عبدالواحد لا يريد لمعشوقته أن تبتئس، ولا يريدها أن تمرض، يريدها متألقة، لكن من لها غيرك؟ أنت فارسها ومحبوبها، أنت من ربطتها بماضيها وحاضرها، أنت من ربطت عسيرها بباحتها، لا تتركها! هذا هو وقتك ورهانك، أنت من سينقلها من موتها البطيء على أيدي السماسرة إلى مكانها المرموق في محافل منظمة تُشرف عليها لجان تقدّر الشعر والشعراء.

نعم يا عبدالواحد، (حنّا لها)!
محفل تألقت فيه، وتألق فيه شعراء العرضة الجنوبية الذين معك، تألقوا بالمعنى، والأبيات، والقوة، والجمال، والحبك، والسرد، والفتل، والنقض، والبدع، والرد. هذا ما نريده، وهذا ما أُحبه أنا شخصيًا، وهذا ما عرفته في قصائد عبدالواحد. لا تترك معشوقتك تموت، بل دورك أن تنقلها إلى مكانها الصحيح.

(شكرًا أبا متعب)

فهد المانعه

ماجستير توجيه وإرشاد نفسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى