المقالات

ترندات من ورق.. في المجتمع الرقمي

✍️ جمعان البشيري 

في مجتمعٍ باتت فيه الإعجابات أكثر تأثيرًا من الآراء، والمشاهدات أغلى من المبادئ، أصبحنا نعيش في عالمٍ رقميٍّ تحوّل فيه الإنسان من “كائن عاقل” إلى “كائن قابل للمشاركة”. فكل ما عليك فعله هو ضغطة زر… وقد تصبح نجمًا، أو عارًا عامًا، أو كليهما في وقت واحد!

قديماً، كانت الشهرة نتاجًا لتعبٍ طويل، ومواهب حقيقية، ومسيرة تستحق التقدير. أما اليوم، فيكفيك أن ترقص أمام الكاميرا، أو تفتح ثلاجتك وتستعرض ما فيها، أو تُطلق عبارة “غريبة بس تمشي”، لتجد نفسك متصدِّرًا قوائم البحث، وتُستضاف في البرامج كأنك اكتشفت علاج السرطان.

لم تعد الشهرة هدفًا للإنجاز، بل أصبحت غاية بحد ذاتها، حتى لو كان الطريق إليها مليئًا بالتفاهة والابتذال؛والكارثة أن هذا الإدمان لا يُصيب الكبار فقط، بل وصل إلى الأطفال والمراهقين الذين أصبحوا يُقاسون بقيمتهم السوقية لا بقيمهم الإنسانية؛ بعد أن وصلوا إلى حالة من  إدمان الشهرة.. وهم النجومية السريعة.!

ومن الغريب جدا في عالمهم أن الخصوصية لم تعدْ خيارًا، بل أصبحت ذكرى جميلة،ورفاهية لا يملكها أحد في هذا العصر الرقمي،. فكل لحظة نشاركها على الإنترنت، تتحوّل إلى “ملكية عامة” دون أن ندرك، حتى صور الإفطار والعطلات العائلية أصبحت عروضًا مسرحية يتفرج عليها القريب والغريب… وربما يتسلّى بها “متنمر إلكتروني” في لحظة ملل.!

والتنمر هنا ليس مجرد تعليقات لاذعة، بل سلاح قاتل، يخترق الجدران ويغتال الأرواح.! هناك من لم يتحمّل سخرية تعليق؛ فانطفأ إلى الأبد.! وبين ضحية ومنتحر، يقف القانون أحيانًا متردّدًا، والمجتمع متفرجًا، في مشهد يُشبه “أرينا” رومانية لكن بنسخة رقمية! – في الأرينا الرومانية: الجمهور يُصفّق وهو يشاهد مصارعًا يُذبح. أما في النسخة الرقمية اليوم: جمهور إلكتروني يُصفّق وهو يشاهد إنسانًا يُجلد معنويًا ويتعرض للسخرية أو التنمّر أو الإلغاء.! – ولنكن عادلين في تناول القضية فصناعة المحتوى.. تتفاوت بين الإبداع و”الاستهبال” فبعض صُنّاع المحتوى يستحقون التقدير، فهم يقدّمون معرفة، ويزرعون البهجة، ويُحفّزون الناس على التفكير. لكن هؤلاء – للأسف – يُغرقهم سيل من “المحتوى الفارغ” الذي لا هدف له إلا الضجيج.

ترى أحدهم يمضي نصف يومه في إعداد مقطع، وبجواره آخر يلتقط فيديو وهو يصرخ في وجه والدته… فيحصد ملايين المشاهدات.!

ليس لأن الناس تُحب قلة الأدب، بل لأن الخوارزميات تُحب الضوضاء.

فأصبح بعضهم يتفنّن في تقمص الجهل، وكأن الجهالة “براند” تُسوَّق، لا عيب يُستر..

نعيش زمنًا يتساءل فيه الناس: “هل شاهدت مقطع فلان؟” بدل أن يقولوا: “هل قرأت كتابًا؟”

وختاماً نحن لا نهاجم التقنية، ولا نرفض التقدم، بل نُحب أن نستخدمها لا أن تُستخدم ضدّنا. فالمجتمع الرقمي ليس عدوًا، لكنه مرآة… وأحيانًا “مرآة مكبّرة” تكشف قبحًا حاولنا إخفاءه.!

فلتكن شهرتك في أثرك، لا في عدد متابعين لا يذكرون اسمك بعد أسبوع..واحفظ خصوصيتك كما تحفظ كرامتك، واصنع محتوى ترتقي به العقول، ولا يضحك منه الزمن.

همزة وصل :

الترند يموت بعد يومين… أما الكلمة الصادقة، فتعيش أبداً.

جمعان البشيري

محرر صحفي - جدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى