قد يقف الإنسان متفكراً متسائلاً عن حال الحاج أو الزائر أو المعتمر عند وقوع نظره لأول مرة على الكعبة المشرفة هذا البناءُ الذي كم اشتاق له المسلم منذ أن وعى وعرف أنه مكلف بحج هذا البيت أو الاعتمار إليه هذا البيت الذي ضُربت أكباد الإبل للوصول إليه وشقت السفن عبابَ البحار وحلّقت الطائرات في الأجواءِ وقطعَ الناسُ الفيافي والقفارَ بكل وسيلةٍ كيما يصلوا إلى هذه الوجهةِ العظيمة…
نعم يقف المرءُ متسائلاً إن لم يكن متحيراً يبحث عن جواب شافي كافي لتساؤلاته يارب كيف هي حال هذا الإنسان عندما وقعت عيناه على هذا البناء الشامخ الباذخ الذي يطاول عنان السماء ويزاحم الجوزاء وقبل ذلك أي حلاوة خالطت القلب عندما أخذ ركب الحجيج يقترب رويداً رويداً وتتضاءل المسافات للوصول لمكة الفيحاء ماذا كان شعور الشخص الذي يؤم بوجهه قاصداً مكة شرفها الله ولكن أرجو أن لا يطول هذا التساؤل فلنترك أحد هؤلاء السعداء المحظوظين يتحدث عن ذلك الشعور المهيب فلنستمع للشاعر القدير بيرم التونسي- رحمه الله- وهو يصف حاله وفي الحقيقة هو يتحدث بلسان كل من وقف موقفه الجميل هذا فلنصغي إليه وهو يصف هذا الشعور بلهجة مصرية غاية في البساطة والجمال يحلق بنا عالياً في قصيدته بل فلنرتقي بها إلى أعلى ونعطيها اسماً أكبر فلنقل بملحمته الإيمانية ( القلب يعشق كل جميل) هو يستهل ملحمته هذه بأن القلب طُبِع على عشق كل شيء جميل هكذا طبّعه من خلقه جل في
علاه ثم يستطرد قائلا :-
القلب يعشق كل جميل
وياما شفت جمال ياعين
ثم يقارن بين الحب للمخلوقين والحب للخالق سبحانه وتعالى
يقول إن الإنسان في حبه لشخص ما إن صدق هذا الحب فقليل جداً وإن استمر فيستمر ليوم واحدٍ أو يومين إشارة لقصر المدة كما قال الشاعر إيليا ابو ماضي:-
وكنا تعاهدنا على الموت في الهوى
فما لبثت إلا كما يلبث الورد
ثم يستمر بيرم فيقول :-
واللي صدق فى الحب قليل وإن دام يدوم يوم ولا يومين
ثم ينقلنا بل ينقل أحاسيسنا وشعورنا ووجداننا إلى الحب الحقيقي حب المعبود بكل مافيه من صفات الجلال والجمال والكمال يسموا بنا وبأرواحنا إلى عالم النقاء والصفاء فيبين الفرق بين الحبين والعشقين فيقول:-
واللي هويته اليوم
دايم وصاله دوم
لا يعاتب إللى يتوب
ولا فى طبعه اللوم
واحد مافيش غيره
ملأ الوجود نوره
دعاني لبيته
لحد باب بيته
واما تجلى لي
بالدمع ناجيته
كنت ابتعد عنه
وكان يناديني
ويقول مصيرك يوم
تخضع لي وتجيني
طاوعني يا عبدي
طاوعني أنا وحدي
مالك حبيب غيري
قبلي ولا بعدي
أنا اللى أعطيتك
من غير ما تتكلم
وأنا اللى علمتك
من غير ماتتعلم
واللي هديته اليك
لو تحسبه بإيديك
تشوف جمايلي عليك
من كل شيء أعظم
سلم لنا تسلم…
وفي الحقيقة وأنا أكتب هذا المقال حين مررت بالأبيات عاليه لم أملك مدامعي من الهطول غلبتني وجاشت النفس بشئ جميل وراقي جداً فعندما يستحضر الإنسان عظمة الله الرحيم وأن الله ينادي عبده بكل الحب وهو الغني عنه فلا تسل عما يدور في النفس من شعور وحب للخالق العظيم…
إللي هويتو اليوم
دايم وصاله دوم
هذا الحب الذي لا ينقطع وصاله ولا تنفصم عراه والله الرحيم هذه صفاته
يقول الشاعر :-
لا يعاتب إللي يتوب
ولا في طبعو اللوم
ثم يحقق الشاعر وحدانية الله فيقول:-
واحد مفيش غيره
ملأ الوجود نوره
نعم الله نور السموات والأرض
ثم يقول لقد دعاني ربي فلبيت الدعاء لحد باب بيته وهذا من الكرم الإلهي الذي ليس له حدود ولا نظير وكأن الشاعر يقول من أنتِ أيتها النفس حتى يدعوك مالك الملك وملك الملوك سبحانه..
ولما تجلى لي في آياته ومخلوقاته بالدمع ناجيته وهل مثل هذا الموقف يقابل إلا بالدموع الغزار ثم يقول سلم لنا تسلم سلم الأمر لخالقك أيها العبد سوف يسلمك الله ويرعاك من كل مكروه وضيم فالحبيب يحمي حبيبه ويدافع عنه يقول الله تعالى في محكم التنزيل:( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور)
ثم يقول الشاعر محدثاً عما كان منه من خطايا وذنوب وآثام وعصيان :-
كنت ابتعد عنه
وكان يناديني
ويقول مصيرك يوم
تخضع لي وتجي لي
يقول من حب الله لعباده يعاتبهم برقة وكيف لا وهو أرحم الراحمين يا أيها الإنسان الشرود الهارب من ربه لا بد أن تعلم هذه القاعدة لتسلم أن الإنسان إذا خاف من شيءٍ هرب منه ولكنه إذا خاف من الله هرب إليه والله يقول لنا في القرآن الكريم على لسان نبيه ﷺ (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) .
لا بد أن تعود أيها الآبق خشية الذنوب إلى خالقك قسراً أو طوعاً وعن رضا سوف تخضع له وتعود إليه صاغراً منكسراً لأنه هو من يجبر قلوب الحزانا والمنكسرين بعطفه ورحمته بهم..
ويستمر الشاعر في وصف رحلته إلى ربه الغفور بأن الله يعدد له بعض نعمه عليه فيقول:
طاوعني يا عبدي
طاوعني أنا وحدي
مالك حبيب غيري
قبلي ولا بعدي
أنا اللى أعطيتك
من غير ما تتكلم
وأنا اللى علمتك
من غير ماتتعلم
واللي هديته إليك
لو تحسبه بإيديك
تشوف جمايلي عليك
من كل شيء أعظم
يقول إن الله تعالى يقول له طاوعني ياعبدي ولكن طاعتك لي وحدي أنا لأنه ليس لك حبيب غيري أنا فليس لك قبلي ولا بعدي حبيب فأنا الذي أعطيتك النعم من غير أن تطلب وتتكلم منذ أن كنت في بطن أُمِك إلى أن تعود لباطن الأرضِ وأنا الذي علمتك والذي اهديته لك لو حسبته بيديك سترى إنعامي وجمائلي عليك من كل شيء عظيم وجليل.
ثم يصف وصوله إلى مكة شرفها الله التي فيها جبل النور الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد ويتحنث فيه وفيه نزل عليه الوحي مؤذناً بالرسالة….
ثم يصف دخوله من باب السلام ففي ذلك الوقت غمر السلام قلبه وقلب كل من وطأت قدمه أرض مكة:-
مكة وفيها جبال النور
طلة على البيت المعمور
دخلنا باب السلام
غمر قلوبنا السلام
بعفو رب غفور
فوقنا حمام الحمى
عدد نجوم السما
طاير علينا يطوف
ألوف تتابع ألوف
طاير يهني الضيوف
بالعفو والمرحمة
واللي نظم سيره
واحد مافيش غيره
هنا رأى الحمام الذي يسكن مكة ويطير محلقاً وكأنه يحي ضيوف البيت العتيق ويصف كثرة هذا الحمام بأنه كعدد نجوم السماء كثرة ويطوف هذا الحمام فوق الرؤوس يهنئ ضيوف الرحمن بالعفو والمرحمة وكأنهم رسل سلام وطمأنينة لمن جاء إلى هذا المكان ففيه تسكب عبرات الندم وهنا تغفر الذنوب وهنا تسكن النفس وتطمئن ألا ترانا كيف نحلق بكل أمن وسلام دون خوف هذا هو لسان حال الحمام والذي نظم سير هذا الحمام هو الله الواحد الذي ليس هناك ربٌ سواه سبحانه وتعالى…
ثم وصف قدومه إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته في الروضة الشريفة التي هي قطعة من الجنة….
جينا على روضه
هلَّه من الجنة
فيها الأحبه تنول
كل إللى تتمنى
فيها طرب وسرور
وفيها نور على نور
وكأس محبه يدور
واللي شرب غنى
وملائكة الرحمن
كانت لنا ندمان
بالصفح والغفران
جاية تبشرنا
يا ريت حبايبنا
ينولوا ما نلنا
يا رب توعدهم
يا رب واقبلنا
دعاني لبيته
لحد باب بيته
واما تجلى لي
بالدمع ناجيته
وختم الشاعر ملحمته بالتمني والرجاء لكل الحبايب أن ينالوا مثل ما نال هو من المحبة والغفران، التي كانت ملائكة الرحمن تدعوا ربها (بان) يغفر لهؤلاء الذين تركوا بلدانهم وأهليهم وراحتهم وأعمالهم لينالوا مغفرة الذنوب ِ….
نعم لقد أجاب الشاعر بيرم التونسي ووصف شعور وأحاسيس كل حاج أو معتمر لهذا البيت وكان شعورا صادقاً لا تجمّل فيه أو مداراة..شعور صادق خالط الدم واللحم ووصل حد العظم هذا الشعور وهذه الأحاسيس هي التي دفعت أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله لأن يقول بتساؤل فيه خوف وفيه بذات الوقت الرجاء :-
وَيا رَبِي هَل تُغني عَنِ العَبدِ حَجَّةٌ
وَفي العُمرِ ما فيهِ مِنَ الهَفَواتِ
نعم يا أمير الشعراء بإذن الله تكفي بشرط أن تكون حجة لا رفث فيها ولا فسوق ولا عصيان هنا يعود الإنسان
من حجه كيوم ولدته أمه هذا وعد الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
فاللهم تقبل من الحجيج حجهم وأعطي كل واحد منهم مسألته وألحقنا بهم بالعفو والمرحمة فإنك جواد كريم ليس لكرمه وجوده حد.
الله عليك يا ابا ليلى قلبك الجميل العاشق نثر لنا هذا السرد الجميل وانت ابن مكة وابن الحرم وتعرف كل تفاصيله منذ الصغر فهو بيتنا الثاني كان خاصة في الاجازات ندرس ونتعبد فيه ونتنقل بين اروقته وساحاته ونستنشق عبق الكعبة مختلط بكل روايح الحجاج من كل العالم ونسترجع ايات من جزء عم في جنباته عند شيوخنا ونعرج على تحسين الخط عند معلمينا ثم نصلي المغرب ونعود ملئنا فرح الدنيا ونعرج على بائع الشريك وتخرق انوفنا رائحة كيك شهاب ونقنع بالشم ونشبع بقناعة
مقال ذهبي جميل مؤثر إبدااااااااع في المنقول والمعمول
غاية في الروعة و الجمال… جزيت خيرا أخي الكريم أبا ليلى .
قلت فأبدعت استاذ ابراهيم ،،
سلِمت يمينك و دام قلمك
تحياتي و تقديري لك و لمتابعيك