المقالات

بين التكوين والتلقين

في عالم تتكاثر فيه الأصوات وتتصارع فيه القيم، لم يعد السؤال عن “ماذا نعلِّم أبناءنا؟”، بل: كيف نجعلهم أكثرهم صموداً؟
إن التربية ليست عملية نقل معلومات أو حتى سلوكيات، بل هي فعل تكوينٍ طويل المدى، يستند إلى الفهم العميق للإنسان، لا إلى السيطرة عليه.
في نظر عرّابي التربية والتفلسف كذلك أن الانتصار لا يتحقق إلا عندما تُبنى القيم في داخل الإنسان لا فوقه، لتصبح جزءًا من نسيجه النفسي لا مجرد قناعٍ اجتماعي، وهنا تبرز أهمية التربية لا بوصفها مجموعة أوامر أو نواهٍ، بل عملية تشكيل لوجدان الجيل، وبلورة لوعيهم الأخلاقي.
“الطفل يولد خيّراً بطبعه، أو بما يعطي هذا المعنى مما أثبته بعض علماء النفس، وأن فساد القيم يحدث حينما يُفرض عليه نموذج اجتماعي فاسد، لذا يرون أن التربية تقوم على التحرر المطلق فيُعطى الطفل مثلاً فرصته ليعيش بطبيعته لا بحسب ما يريده المجتمع الآني منه، فكأنها تعبير عن نموذج تحريري لا تدجيني.
أما كارل يونغ وبزاويته النفسية التحليلية، يرى أن الطفل لا يستوعب القيم التي نُلقِّنها له بقدر ما يستبطن القيم التي نعيشها أمامه، ولذا فإن التربية الحقيقية تبدأ من تربية النفس وكما يُقال “أعظم عبء يحمله الطفل هو حياة لم يعشها والداه”، إذاً القيم ليست شيئًا نقوله، بل شيئًا نكونه.
في هذا السياق، فإن التربية بالقيم ليست عملية خطابة مستمرة، ولا سلسلة عقوبات ومكافآت، بل هي منظومة من الخبرات اليومية التي يعيشها الطفل في بيئة ينسجم فيها القول والفعل.
الطفل لا يحتاج إلى معرفة معنى “الصدق” في اللغة بقدر ما يحتاج إلى رؤيته حيًّا في تعامل المحيط، إن ما يتعلمه الطفل من مواقف الحياة الصامتة يفوق أضعاف ما يتعلمه من الخطب الرنانة.
القيم، بطبيعتها، ليست مُنجزًا نهائيًا، بل مسارٌ من المحاولة والخطأ والتعلم المستمر، لا ينبغي لنا أن نربّي أبناءنا على الخوف من الخطأ، بل على الصدق في الاعتراف به، والشجاعة في تصحيحه، فالأمانة لا تُزرع بالرقابة، بل بالثقة، والرحمة لا تُغرس بالوعظ، بل بالقدوة، والتواضع لا يُعلَّم بالكلمات، بل يُشهد بالأفعال.
لا بأس أن يُعاد تعريف التربية بوصفها رعاية للبذور، لا تشكيلًا للتماثيل، لعلها خطوة نحو صناعة نسخة بإنسان جديد محمّلًا بالقيم.

رياض بن عبدالله الحريري

كاتب وصانع محتوى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى