يتكرر المشهد ذاته في مدارسنا مع كل دورة دراسية: غياب جماعي يسبق الإجازات الرسمية والمطوّلة، ويتضاعف عقبها، ويتكرّر في الأيام الأخيرة قبل نهاية الفصل، وصولًا إلى الأيام التي تسبق فترة الاختبارات النهائية، والتي تتحول فيها المدرسة تدريجيًا إلى فضاء خاوٍ من الحضور والجدية، وكأنها تتهيأ للإجازة قبل موعدها.
هذه الأنماط لم تعد مجرّد استثناء، بل أصبحت سلوكًا جمعيًا يعكس خللًا عميقًا في علاقة الطالب بالمدرسة، ويفرض تساؤلًا جادًا:
أين تقف وزارة التعليم من ترسيخ ثقافة الانضباط المدرسي؟
بل الأهم: كيف يمكن أن تستعيد المدرسة مكانتها وهيبتها في وعي الطلبة، إذا غابت عنها الجاذبية، وتلاشى منها الإحساس بالجدوى؟
المدرسة ليست مبنًى… بل معنى
في كثير من الأنظمة التعليمية المتقدمة، تُبنى علاقة الطالب بالمدرسة على أساس وجداني عميق، لا على التزام خارجي مفروض. وفي فنلندا، على سبيل المثال، تُعد المدرسة مكانًا آمنًا ومحببًا لدى الطالب، لا يفر منه، ويعود ذلك إلى تكامل السياسات التربوية التي تركز على:
• التقويم التراكمي المستمر: حيث يُوزع التقييم على مراحل متعددة طوال الفصل، ويُدمج في الممارسة الصفية، مما يمنح كل يوم دراسي قيمة تعليمية حقيقية، ويجعل الطالب في حالة حضور ذهني دائم.
• التعلم القائم على المشاريع والملفات التراكمية: وهي أنشطة توظف المعرفة في سياق واقعي، وتُنمّي التفكير النقدي، وتعزز لدى الطالب شعورًا بالإنجاز والمشاركة.
• تعزيز الارتباط العاطفي بالمدرسة: عبر بيئة داعمة تراعي الفروق الفردية، وتمنح الطالب صوتًا في تشكيل تجربته التعليمية، مما يولّد شعورًا بالانتماء.
وفي سنغافورة، نجد أن سياسات التقويم تعتمد على التدرج المرحلي والتقييم الأدائي، بحيث لا يُختزل التعلّم في لحظة اختبار، ولا يُفصل عن سياق التطبيق، ما يُسهم في تحفيز الطلاب على الحضور والمشاركة حتى في الأيام الأخيرة من الفصل.
ماذا عن واقعنا؟
في المقابل، لا تزال بعض ممارساتنا التربوية تدور في فلك النمطية والجمود. من ذلك استمرار اليوم الدراسي الكامل خلال فترة الاختبارات النهائية، مع إدراج حصص دراسية في مواد سبق أن اختُبرت وأُنجزت وخُتمت رسميًا.
تحت مبرر “معالجة الفاقد التعليمي”، يُطلب من الطالب حضور حصص لا تتضمن محتوى جديدًا، ولا تقدّم قيمة تعليمية مضافة، مما يرسّخ في ذهنه أن المدرسة مجرد التزام إداري لا يحمل مضمونًا، وأن الحضور غاية بحد ذاته لا وسيلة للتعلم.
وهنا تبرز إشكالية مزدوجة:
• فمن جهة، لا يتم تحديد الفاقد التعليمي من خلال تحليل علمي لنتائج الطلاب، ولا تُبنى خطط التدخل بناءً على بيانات دقيقة.
• ومن جهة أخرى، يتعزز لدى الطالب الشعور بأن النظام التعليمي لا يحترم تسلسل عملياته؛ إذ أن التقويم النهائي، وهو آخر مراحل التعلم، يُتبعه تعليم ارتجالي بلا هدف.
الأخطر من ذلك أن هذه الممارسات تُفرغ المدرسة من معناها، وتُضعف الرابط الوجداني بين الطالب ومؤسسته التعليمية، وتُحول الحضور إلى عبء شكلي لا علاقة له بتجربة تعليمية ثرية أو محفزة.
هل آن أوان التحول الجذري؟
لقد آن الأوان لأن تتبنى وزارة التعليم نموذجًا أكثر اتساقًا مع فلسفة التعلم الحديثة، يُعيد الثقة في المدرسة بوصفها فضاءً حيويًا محفزًا، لا مجرد موقع للحضور القسري. وهذا لا يتحقق إلا من خلال:
1. إعادة النظر في مفهوم التقويم
بالانتقال من الاختبار النهائي إلى نموذج تقويمي تراكمي يتضمن ملفات إنجاز، ومهام أدائية، وتقييمات مرحلية مرتبطة بمخرجات تعلم واضحة.
2. تبني سياسة حضور مرنة وذات معنى
تستند إلى القيمة المضافة لليوم الدراسي، لا إلى فكرة الإلزام الشكلي، مع تفعيل الحوافز المرتبطة بالحضور المنتج لا الحضور الشكلي.
3. تعزيز الانتماء المدرسي
من خلال برامج تفاعلية وتربوية تُشرك الطالب في القرار، وتُشعره أن المدرسة مكان يستحق الانتماء إليه لا مجرد موقع للحضور الإجباري.
4. الاستفادة من التجارب العالمية بتكييف تربوي
ليس بنقل الإجراءات كما هي، بل بتحليل الفلسفات الكامنة وراءها، وتطويعها بما يتناسب مع السياق التعليمي والاجتماعي في المملكة.
ختامًا…
المدرسة لا تستعيد هيبتها بالإجراءات الصارمة وحدها، بل حين يشعر الطالب أن كل يوم فيها يستحق أن يُعاش، وكل لحظة داخل أسوارها تحمل فرصة للتعلم والنمو.
حين ترتبط المدرسة في وجدانه بالمعنى، لا بالفراغ،
عندها فقط، لن نحتاج إلى ملاحقة الغياب،
لأن الحضور سيكون خيارًا نابعًا من الداخل.
محمد عبده الكناني
مشرف تربوي ( متقاعد) وإعلامي
مقال في الصميم تشكر عليه استاذ محمد طرحت المشكلة والحلول..