المقالات

جامعات كثيرة “بين الشكل والمضمون، إلى أين يأخذنا التوسع غير المدروس في التعليم الجامعي؟

كنت أتنقل بين جامعات مدينة الرياض برفقة ابنتي لأداء اختبارات القدرات والتحصيلي، مررنابجامعة الملك سعود، ثم جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية، وختمنا بجامعة الأميرةنورة، مشهد المواقف المزدحمة والمباني الضخمة اللامعة والمداخل الأنيقة والقبابالشاهقة، كان كافيًا ليطرح سؤالًا ثقيلًا في رأسي: هل نحن أمام صروح تعليمية؟ أم مدن صامتةتتباهى بالخرسانة ما الذي تنتجه كل هذه المباني؟ وهل المخرجات توازي المدخلات؟

هذا الانطباع ليس محصورًا بالرياض فقط، فمن الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب،تتكرر النسخة نفسها مباني تلتهم الميزانيات، جامعات تتوسع أفقيًا بلا مبرر، وخريجونيتكدسون بازدياد.

كل عام، تدفع الجامعات آلاف الخريجين إلى السوق، كثير منهم من تخصصات لا تجد طريقًا إلاإلى الإحباط خاصة من خريجي التخصصات النظرية، والعلمية الدقيقة كالكيمياء، والفيزياء،والإحصاء“مجالات تدرس بلا خطة، تفتح بلا تنسيق مع احتياجات السوق، وبلا رؤيةمستقبلية حيث يعاد تأهيلهم لمهن أخرى بعيدة عن تخصصاتهم.

السؤال البديهي: لماذا تصر جامعاتنا على أن تكون نسخة من كل شيء، دون هوية؟ لماذا لا نرىجامعة تبنى على تخصص، على تميز، كما في الدول التي تفهم قيمة المعرفة لا مظهرها؟ فيدول العالم المتقدم، الجامعة تبدأ من فكرة، لا من مبنى، الجامعة تبنى حول تخصص، لا تبنىلتضم كل التخصصات، مثال معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT وجامعة سنغافورةالوطنية (NUS) كيف أن التركيز على مجالات محددة كالذكاء الاصطناعي أو الهندسة الحيويةساهم في صنع ريادة أكاديمية واقتصادية على مستوى عالمي، فلماذا لا تعاد هيكلة الجامعاتالقائمة على هذا النموذج وتكون أكثر تركيزًا وأقل تشتتًا؟

لدينا أمثلة مشرفة، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن مثال على كيف يصنع التميز عندمايكون التخصص واضحًا، فأكثر من 60٪ من خريجيها يجدون وظائفهم خلال عام، كذلك جامعةالملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية (جامعة الحرس الوطني) تعمل بذات المنطق حيثأن نسبة اجتياز اختبار هيئة التخصصات الصحية لخريجيها عالية جداً مقارنة بالجامعاتالأخرى، بينما جامعاتنا “الشاملة” تصنع بطالة جماعية بحجة التنوع الأكاديمي.

الجامعات لا تقاس بعدد الكليات، بل بعمق التأثير، لا نحتاج جامعات ترضي الجميع، بلجامعات تخدم الوطن، لا نحتاج توسعًا أفقيًا، بل عمقًا رأسيًا، لا نحتاج مباني خرسانية ، بلنحتاج مشروعًا معرفيًا.

بل لماذا نفتح جامعات في مدن صغيرة بتصاميم تفوق طاقتها البشرية؟ لماذا لا تربط الطاقةالاستيعابية بعدد السكان وتوقعات النمو الاقتصادي؟ هذا وحده كفيل بتقليص الهدر، وزيادةالكفاءة.

لماذا لا نخضع القبول الجامعي لاحتياج السوق؟ لماذا لا نلزم الجامعات بقبول يتناسب معحاجة البلد بنسبة لا تقل عن 50% وترتفع تدريجياً إلى 70% أو أكثر؟ النموذج العسكري واضح: لا يقبل طالب إلا لفرصة مضمونة، فلماذا لا نطبق هذا النموذج في التعليم الجامعي؟ ولماذا لانربط القبول بعقود عمل مشروطة كما يحدث في الابتعاث “كمسار واعد” على سبيل المثال،وابتعاث أرامكو، وسابك وغيرها؟

والكارثة أن بعض التخصصات لا تزال قائمة رغم موتها سريريًا في السوق وفي المقابل،تخصصات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة تصرخ طلبًا للكوادر ولا من مجيب، وهذايدفعنا للضرورة مراجعة الخريطة الأكاديمية ككل، تلك التخصصات يجب أن تغلق أو تجمّدمؤقتًا بسبب انخفاض الطلب عليها، إذا واصلنا تخريج أعداد لا يحتاجها أحد، فإننا لا نصنعتعليمًا، بل نُراكم أزمة.

والأغرب جامعة الأميرة نورة، صرح ضخم يدار بميزانيات هائلة، لكنه لا يخدم إلا نصفالمجتمع، نحن في زمن الكفاءة، فكيف نقبل بهكذا تفرقة؟ ألا يمكن إعادة النظر في فلسفةالقبول فيه ليخدم أبناء الوطن جميعًا، لا نصفهم فقط؟

ولا يمكن اغفال ملف أعضاء هيئة تدريس الجامعات.

عضو هيئة التدريس لا ينبغي أن يكون فوق النقد، التفرغ الأكاديمي ليس درعًا ضد المساءلة،بل عبء مضاعف، لماذا لا يخضع الأكاديمي لتقييم دوري حقيقي؟ إسوة بالممارس الصحيوالمعلم، ولماذا لا تقاس ترقيته بأثر بحثه في الواقع؟ لا يكفي أن ينشر بحثًا في مجلات تصنفعالية Q1، أو Q2 إذا كان البحث لمجرد النشر ولا يغادر طاولة المكتب، كما أن المزايا التي تمنحلعضو هيئة التدريسمن سكن وبدلات وحوافزلا ينبغي أن تكون “بدون مقابل”، بلمكافآت لأثر ملموس، يمكن قياسه وتتبع أثره في المعرفة والتنمية، عضو هيئة التدريس، مهماعلا منصبه، هو موظف في خدمة الوطن، يجب أن يعطي بقدر ما يأخذ، وأن يسهم بصدق فيبناء الأجيال، فبعضهم للأسف لا يقدم شيئًا دون مقابل، لا حضور في المجتمع، لا دور فيالتنمية، فقط حصد ألقاب وامتيازات وسفر ومؤتمرات، وكأن وظيفته الحقيقية هي جمعالنقاط، لا بناء العقول.

نحتاج نظامًا وطنيًا يعيد تعريف “الجدارة الأكاديمية” نريد تقييمًا قائمًا على الأثر، لا على الشكل،نريد أبحاثًا تخرج من الجامعة لتغير شيئًا في الواقع، لا لمجرد النشر.

وهنا تذكير واجب: هذه المكانة التي وصل إليها عضو هيئة التدريس لم تأت من فراغ، بل مندعم الدولة وثقة الوطن، وإن لم يرد هذا الجميل بخدمة حقيقية، فما الفائدة؟ الأكاديميالحقيقي لا يكتفي بالشرح، بل يبادر، لا يحلل من بعيد، بل يصنع أثرًا.

في الختام، لسنا بحاجة إلى المزيد من الجامعات، نحن بحاجة إلى مشروع وطني صادق يعيدتعريف التعليم، فإن لم نجب اليوم عن سؤال: من نخرج؟ ولماذا؟ فسنجد أنفسنا نغرق غدًا فيسؤال أكثر قسوة، ما هو مصير الخريجين الذين تخطى سوق العمل تخصصاتهم؟ رغم هذاالزخم التعليمي؟ والجواب لن يكون في القاعات، بل في الفجوة العميقة بين الشهادة والمهارة،بين الجامعة والواقع.

‫3 تعليقات

  1. مع تقديري لكاتب المقال يبدو انه بعيد عن الجامعات فهي اولا تعمل وفق سياسة الدولة التي تعطي الحق لكل مواطن لمواصلة تعليمه الجامعي وفق قدراته وتستوعب ابناء وبنات المجتمع باعداد نفخر بها وتحاول ان تكون المخرجات وفق ادلة تعمل عليها وتاخذها في الحسبان عند بناء الخطط وصياغة مخرجات التعلم ومسألة التوظيف ليست مسؤولة الجامعة مسؤوليتها هي التعليم والاعداد الجيد اما التوظيف فهو موضوع اخر ومسؤولية جهات اخرى ناهيك عن ان الجامعات بالفعل كثير منها اغلقت التخصصات النظرية التي اصبحت متشبعة او خفضت القبول فيها واخيرا حتى لو كان لديك عاطل مؤقت يبحث عن عمل فأن يكون حاصل على مؤهل جامعي يرتقي به فكرا وسلوكا خير من ان يكون عاطل بثانوية عامة او دبلوم قد يشكل خطرا على نفسه وعلى المجتمع وسلامتك

    1. صحيح أن للجامعات رسالة علمية وبحثية أصيلة
      لكن لا تعارض بين ذلك وبين مواءمة مخرجاتها مع احتياجات سوق العمل. فدورها لا يقتصر على إنتاج المعرفة فحسب بل يشمل أيضًا إعداد كفاءات تساهم في تنمية الوطن وهذا لا يتحقق إلا برؤية متوازنة تربط بين الرسالة الأكاديمية ومتطلبات التنمية الوطنية

  2. مقال بعيد كلية عن معرفة فلسفة التعليم الجامعي فالاكاديميات العالمية لم توجد لصنع عاملين حسب احتياجات سوق العمل بل مخازن فكر ومنابر تأهيل معرفي للمجتمع وفي كافة مجالات المعرفة علوم إنسانية أم تطبيقية وماذكره الكاتب من امثلة لجامعات عالمية نماذج فردية بل إن جامعات تتربع على التصنيف الجامعي مثل هارفارد وييل وبيركلي واستانفورد تُدرس كل هذه التخصصات وامّا أين هي تتائج الابحاث التي يقوم بها أعضاء هيئة التدريس فلا تُسأل الجامعات عنها بل الجهات التي تعنيها هذه الابحاث والتي تحجم عن الاستفادة منها وتلجأ لمكاتب استشارية.واستغرب حقيقة تقصد الكاتب لمزايا عضوٍ هيئة التدريس البسيطة مقارنة بما يحصل عليه نده في هيئات وشركات كبرى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى