المقالات

وقفة في عرفة.. حين يختصر الزمن في لحظة دعاء

في التاسع من ذي الحجة، حيث تتجمّع الأرواح وتتوحد القلوب وتنكشف الحجب بين الأرض والسماء، وقفتُ في عرفات. كانت الشمس قاسية، ترسل أشعتها الحارقة كأنها تمتحن عزيمة الحجيج، لكن لا أحد التفت إلى الحرّ، فقد كانت حرارة الإيمان أقوى، ولهيب الرجاء أكبر.

لم يكن مجرد يوم عادي، بل هو الركن الأعظم من الحج، اليوم الذي قال فيه رسول الله ﷺ: “الحج عرفة”. هو الموعد السنوي الذي تتنزّل فيه الرحمة وتُرفع فيه الدعوات، وتُكتب فيه صفحات جديدة من الحياة لمن صفا قلبه وصدق رجاؤه.

وقفت بين جموع من كل فجّ عميق، لا نعرف بعضنا، لكن نتشابه في البكاء، في الرجاء، في الهمس لله وحده. العيون مغسولة بالدمع، والأكف ممدودة، وكلٌّ يحمل حكاية، وكلٌّ يرجو مغفرةً وسلاماً واستجابة.

لم أملك في ذلك المقام إلا أن أحمد الله، مرارًا وتكرارًا، حمدًا لا يُعدّ ولا يُحصى. حمدتُه أن اختارني من بين خلقه، أن بلّغني هذا الموقف العظيم، أن منحني نعمة الإسلام والإيمان، ونعمة العقل والعافية، ونعمة الأبناء والعائلة، ونعمة الرزق الذي لا ينقطع، والأمان الذي يظلّني. حمدتُه على كل نفس يخرج مني، على كل لحظة لم أكن فيها محتاجة لأحد إلا إليه.

كيف يُحصى ما لا يُعد؟ كيف يحدّ الإنسان ما لا حدّ له من نِعَم تتنزل عليه صباح مساء؟ القلب الذي طالما غفل، استيقظ هناك؛ أدرك فجأة أنه غارق في الفضل، محاط بلطف لا يُرى لكنه يُحسّ، يُسندنا حين نظن أننا وحدنا، ويحمينا حتى في غفلتنا عنه.

ذلك اليوم لم يكن مجرد وقوف بالجسد، بل انكشاف داخلي، انزياح للهواء الثقيل عن الصدر، خفة عجيبة، كأن الأرواح خرجت من قيدها، لتحلّق نحو ما خُلقت له. هناك، لم أطلب دنيا، لم أعدد أمنيات، بل ذُبتُ في ذكره، وانسكب قلبي كله في اسمه. لم يكن دعائي بصوتٍ مرتفع، بل بأنينٍ خافتٍ يُناجيه كأن لا أحد سواه يسمع.

رغم حرارة الشمس، سكن في داخلي بردٌ لم أذقه من قبل، سلامٌ عميق، كأنني عدتُ إلى أصل الأشياء، إلى المعنى الأول، إلى الحقيقة الخالصة. كان كل شيء حولي يقول: لا شيء يستحق، إلا وجه الله.

خرجت من تلك الأرض الطاهرة وقد امتلأ قلبي بما لا يُقال، بما لا يُكتب، بما لا يُروى، لأن اللغة تضيق حين تتحدث عن ذاك القرب. شيء في داخلي تبدّل، كأن النفس غُسلت بماء من نور، وكأن القلب كُتب له عمرٌ جديد.

عدتُ إلى الدنيا وفي القلب أثر لا يُمحى، شعاع لا يخبو، سكينة لا تهزّها الأيام. لم أعد كما كنت، ولا أريد أن أكون كما كنت. عرفت أن المحبة لا تُقال، بل تُعاش. وأن الله أقرب مما نظن، وأحنّ مما نرجو، وأن من ذاب في لحظة صدق بين يديه، كُتب له الخلود في أنسه، ولو عاش عمرًا بأكمله على الأرض.

كل ما فيَّ عاد يهمس باسمه. كل نبضة، كل نفس، كل ذكرى. هناك فهمت أن الفناء فيه هو البقاء، وأن من تعلّق به، لم يُهزم، ولم يضل، ولم يحتج شيئًا سوى أن يظلّ بين يديه… قلبًا خاشعًا، وروحًا منسكبة، ونفسًا لا تريد إلا وجهه.

حذامي محجوب

صحفية تونسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى