المقالات

العربية… لغة الجمال والمعنى والهوية

“إِنَّ الذي ملأَ اللغاتِ محاسنًا
جَعَلَ الجَمالَ وسرَّهُ في الضادِ”.
في اليوم العالمي للغة العربية، لا نحتفي بلغةٍ بوصفها أداة توا فحسب، بل نستحضر كيانًا حضاريًا كاملًا، تشكّلت في ظلاله الذاكرة، وصيغت به الأفكار، وتكوّنت عبره ملامح الهوية. فالعربية لم تكن يومًا لغة محايدة، بل كانت دائمًا حاملة معنى، وصانعة وعي، ولسان حضارة امتد أثرها قرونًا في الفكر والعلم والسياسة والأدب.

تميّزت العربية بقدرتها الاستثنائية على الجمع بين الجمال والدقة، بين الموسيقى الداخلية للّفظ وصرامة المعنى. هي لغة اشتقاق وتوليد، قادرة على احتضان الجديد دون أن تتخلّى عن أصولها، وعلى استيعاب المفاهيم الفلسفية والعلمية دون أن تفقد روحها الشعرية. ولعلّ سرّ بقائها وحيويتها يكمن في هذه المرونة التي جعلتها لغة قابلة للتجدد، لا لغة جامدة تعيش على أمجاد الماضي.

وحين أصبحت العربية لغة القرآن، لم تُضف إليها قداسة فحسب، بل منحتها وظيفة كونية، إذ تحوّلت إلى لغة جامعة، عبرها انتقلت العلوم، ودُوّنت المعارف، وازدهرت حركة الترجمة، وصار العقل العربي في لحظة تاريخية مركزًا لإنتاج المعرفة لا مجرّد مستهلك لها. من بغداد إلى قرطبة، ومن القيروان إلى دمشق، كانت العربية لغة الدولة والعلم والفكر، لغة الحياة اليومية كما لغة النخبة.

غير أنّ الاحتفاء بالعربية اليوم يطرح سؤالًا جوهريًا حول موقعها في حاضرنا، لا بوصفها رمزًا ثقافيًا، بل باعتبارها لغة عمل ومعرفة. فاللغة التي تُقصى من التعليم الجاد، أو تُختزل في الخطاب الاحتفالي، تفقد تدريجيًا قدرتها على التأثير، مهما بلغت مكانتها الرمزية. الدفاع عن العربية لا يكون بالنوستالجيا، بل بترسيخها في المدرسة والجامعة، وفي الإعلام الجاد، وفي البحث العلمي، وفي الفضاء الرقمي، حيث تُخاض اليوم معركة الوجود اللغوي.

في يوم الضاد، لا نحتاج إلى تمجيد اللغة بقدر ما نحتاج إلى استعادتها بوصفها أداة تفكير نقدي، ولغة إنتاج معرفي، ووسيلة تعبير قادرة على مواكبة تحولات العصر. العربية لا تعادي الحداثة، بل تُساء إدارتها حين تُعزل عنها. هي لغة قادرة على استيعاب العلوم والتقنيات والفلسفات المعاصرة، متى وُجد الوعي والإرادة.

إن الاحتفال الحقيقي بالعربية هو أن نعيد لها ثقتنا بها، وأن نكفّ عن التعامل معها كلغة ثانوية في أوطانها، وأن ندرك أن اللغة التي تفقد مكانتها في وعي أبنائها تفقد مستقبلها قبل أن تفقد ماضيها. وفي زمن تتسارع فيه التحولات، تبقى العربية، بكل ما تحمله من جمال وعمق، قادرة على أن تكون لغة الحاضر والمستقبل، لا لأنها لغة الضاد فحسب، بل لأنها لغة الإنسان والمعنى والهوية.

حذامي محجوب

صحفية تونسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى