عاممنتدى القصة

ظلال الوادي.. قصة قصيرة

قصة قصيرة

أشرقت شمس ذلك الصباح من بين قمم الجبال الشاهقة، تتوّجها خضرةٌ ناعمةٌ تعانقُ السفوح، وتنسدل حتى ضفاف الأودية المنسابة بهدوء، كنغماتٍ تهمس على أوتار الجمال. كانت نسمات الصباح الباردة تمرّ على الوادي كأنها أناملُ حانية، تحمل عبير الزهور البرية، وتُنثر معها زقزقة العصافير ألحانًا شجية تبعث البهجة في كل شيء.

في تلك اللحظة، كانت كاديا، ذات الاثني عشر ربيعًا، تتهيّأ – كما اعتادت كل صباح – لأخذ أغنامها نحو المراعي الرحبة. لم تكن وحدها أبدًا؛ كانت فاطمة، صديقتها الأقرب، بانتظارها عند مدخل القرية، تحمل على كتفها قربة ماء جلدية فارغة، تشبه قربة كاديا. وعلى وجهها البريء، كان يلمع ذلك البريق الطفولي الذي لا يخبو سناه.

سارت الفتاتان معًا نحو المراعي الواسعة، حيث انطلقت الأغنام بلهفةٍ نحو العشب الأخضر الندي. راحتا تركضان بين القطيع، تضحكان وتتعثران، وكانت ضحكاتهما تُحلّق في الهواء وتتمازج مع صدى العصافير. فوقهما، كانت الغيوم البيضاء تسير في السماء الهائلة، تُلقي بظلالها العابرة على وجهيهما المستلقيتين على المروج، تُراقبان زرقة السماء اللاّنهائية، وتحلمان سويًا بحكايات الغد.

ومع اقتراب وقت العودة، نهضت فاطمة مصرةً على الذهاب لملء قربتي الماء وحدها. ابتسمت كاديا، التي بدأت بجمع الأغنام المتناثرة، وقالت بهدوء:

“لا تتأخري يا فاطمة، فما زالت الأغنام متفرقة!”

مضت فاطمة، تركض بخفة بين أشجار الأثل التي تحرس الطريق إلى البئر.

لكن الوقت مضى… وغيابها طال!

ساور القلق قلب كاديا، وبدأت عيناها تبحثان في الأفق، علّها ترى ظل فاطمة يلوّح لها من بعيد. لكن شيئًا لم يظهر.

تركت الأغنام، وهرعت بخطوات قلقة نحو البئر القريب، الذي بدا في تلك اللحظة بعيدًا كالأفق. وكلما اقتربت، تسارع نبض قلبها، كأن يدًا خفية تخنق أنفاسها.

وحين وصلت، تسمرت في مكانها وشخص بصرها.

لم تجد فاطمة هناك. لا صوت، لاحركة. فقط قربة ماء ملقاة، وإحدى فردتي حذائها المطرز، ترقد وحيدة عند حافة البئر!

تجمّد الدم في عروقها، وخرجت من أعماقها صرخة مزلزلة شقّت سكون الوادي:

“فاطمة!”

تردّد الصدى فوق الصخور وبين الأشجار، وانطلق الرعاة من كل صوب نحو الصوت المذعور. وجدوا كاديا واقفة هناك، الدموع تغرق وجنتيها، وتشير بأصبع مرتجف إلى البئر، تهمس كمن يحاول إقناع نفسه بما لا يُصدّق:

“فاطمة… فاطمة…”

قفز بعض الرجال إلى أعماق البئر، بينما ارتفعت الدعوات الملهوفة من شفاه الواقفين، كلٌّ يُناجي رحمة الله.

مرّت دقائق قليلة، لكنها كانت دهورًا من الانتظار والرجاء.

ثم خرجوا.. حاملين جسد فاطمة هامدًا، مرخية الأطراف في سكون مهيب.

شهقت كاديا، وسقطت مغشيًا عليها من هول الفاجعة، وسط نحيب القرية كلها، كأن الألم الذي يسكن قلبها قد سرى إلى أعماق الجميع.

ومنذ ذلك اليوم، لم تعد فاطمة مجرد صديقة غابت، بل أصبحت ظلًا لايُفارق كاديا، يمشي خلفها في كل مكان، وروحًا تطلّ من خلف ستار الذكريات، كأنها لا تزال هناك.. تضحك، وتجري، وتلوّح من ضفة الوادي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى