المقالات

ثلاثون عامًا.. نضج الرؤية من صخب الخارج إلى هدوء الداخل

Wait! Generating MP3 Batch No. 1 out of 13

ليس كل تحوّلٍ في الإنسان يُدوّن بتاريخ، ولا كل يقظة تبدأ بصوت. هناك تحوّلات تُولد في الصمت، وتكبر في الخفاء، وتتجذر في العمق دون ضجيج، حتى إذا ما اكتملت، نظر الإنسان إلى نفسه ذات مساءٍ وقال: “لقد تغيّرت… دون أن أدري متى”.

تمرّ الأعوام، ويجتاز المرء مساحات من الركض خلف التصفيق، ووهج الأضواء، وتشوّق الذات البكر إلى القبول. ثم، في لحظة لا تُشبه غيرها، تنطفئ هذه الحاجة من الداخل… لا بقرار، بل بنضج. تتراجع الرغبة في أن يُرى ويُمدَح ويُفهم، ويحلّ مكانها توقٌ أبسط وأصدق: أن يكون صادقًا مع ذاته، وإن لم يُصفّق له أحد.

ذلك التحوّل لا يحدث فجأة، بل يتراكم عبر سنين من التجربة، والانكسارات الصغيرة، والخذلان المُهذب، والإنهاك الناتج عن محاولة إرضاء الجميع سوى الذات. في الماضي، كان الإنسان ينهك نفسه في تبرير انسحابه، يشرح صمته، ويخاف أن يُساء فهمه. أما الآن، فقد أدرك أن من يُريد أن يفهمه، لا يحتاج شرحًا، ومن لا يُريد، فلن يُجدي معه حديث الأنبياء.

تُعاد صياغة أولوياته بهدوء. لم يعد يردّ على كل سهم، ولا ينكفئ عند كل لمز. اختار أن يحتفظ بصمته، لا لأنه عاجز، بل لأنه عاقل. لم يعد الإنصاف هاجسًا، ولا الشكر انتظارًا، ولا الاعتراف مطلبًا. لقد وضع وزنه في ميزان داخلي لا يعرف المجاملة: ميزان الضمير.

ومع تراكم التجارب، يفهم الإنسان أن الطمأنينة لا تُوهب، بل تُنتزع من الحياة كما يُنتزع المعنى من الفوضى. يبدأ بتقدير ذاته لا لأن أحدًا مجّده، بل لأنه أخيرًا رآها كما هي: مرهقة أحيانًا، نقيّة غالبًا، وصادقة دائمًا.

في لحظة النضج تلك، ينظر الإنسان إلى المرآة فلا يبحث عن وجهٍ بلا تجاعيد، بل عن ملامح تقول: “لقد نجوت”. يرى نفسه بكل ما فيها من انكساراتٍ وتعافٍ، من صبرٍ وحكمة، من خيبةٍ ونهوض. يرى ذاته كما لم يسبق له أن رآها… لا كما رسمها المجتمع، أو زوّرتها التوقعات.

وهنا فقط، يولد المعنى الأسمى للحرية: أن تعيش ذاتك كاملة، دون أن تُنكر فضل أحد، ودون أن تبيع جزءًا منك لتنال القبول من أحد. أن تعي أنك لم تُخلق لتكون انعكاسًا لرغبات الآخرين، بل شاهدًا على صيرورةٍ فريدة لا يملك أحد حق التحكّم بها سواك.

هذا هو النضج… صامتٌ، رصينٌ، لا يحتاج إلى إعلان.
وهذا هو السلام… يُصنع في الروح، لا يُشترى، ولا يُوهب.

• أستاذ القانون – الجامعة السعودية بجدة

د. سلطان بن مرزوق الحربي

أستاذ القانون – الجامعة السعودية بجدة

‫5 تعليقات

  1. صدق الكلمات كما النضج المعتق بالقناعات بعد تنصيب المرآة حكماً
    Dr.Ahmed Bashir
    استاذ القانون التجاري الدولي
    الجامعة السعودية الإلكترونية
    Jeddah

  2. دكتور سلطان
    تحية تقدير واحترام…

    اطلعت على مقالتكم المتميزة:
    *”ثلاثون عامًا.. نضج الرؤية من صخب الخارج إلى هدوء الداخل”*
    وقد لمست فيها عمقًا تأمليًا نادرًا، يجمع بين الرؤية الفلسفية والنضج النفسي والوعي الوجودي.

    لقد استوقفني تناولكم لمفهوم “النضج” لا بوصفه محطة زمنية، بل كتحول تراكمي هادئ في سلم الوعي، يتجاوز سطوة التوقعات الخارجية إلى مساحة من التصالح الداخلي الهادئ.

    صياغتكم الرشيقة لم تكتفِ بعرض الفكرة، بل نجحت في إعادة تشكيل المعاني الكبرى لمفاهيم كالحرية، الرضا، الصمت، والضمير، ضمن إطار معرفي متماسك، وبأسلوب لغوي راقٍ، يصل إلى القارئ بعذوبة وعمق في آنٍ معًا.

    نصكم هذا، في تقديري، يصلح أن يُدرج ضمن أدبيات “النضج القيادي والحرية النفسية” في حقول القيادة، وعلم النفس الإيجابي، وتطوير الذات الواعي.

    جزيل الشكر على هذا الإسهام الذي يثري الفكر، ويُربّي الذوق، ويستفز العقل نحو مراجعة ذاته بهدوء وصدق.

    مع خالص التقدير،
    محمد عيدروس باروم

  3. بيض الله وجهك ورحم الله والديك…ممكن تكتب عن تجربتك في القراءة والكتابة…

  4. ابحث عن وظيفه فالطايف غير مختلطه .. اي وظيفه .. بكالريوس لغه عربيه .. امن فالجامعه او المدارس .. مراقبة دور .. اييي وظيفه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى