لا تزدهر الأمم إلا بازدهار شامل لأنظمتها في كافة جوانب الحياة المعيشية والخدمية والعلمية والعملية، ولا تبلغ ذروة المجد إلا بتعزيز أنظمتها الرقابية، ومن أهمها وأكثرها فاعليةً إيمان الفرد بثقافة الرقابة الذاتية النابعة من مخافته لله، ثم وعيه وإيمانه بأن الإصلاح كمنهج للحياة يبدأ من عنده أولاً قبل أن يبدأ بمراقبة أو محاسبة من حوله، ليتجرد من حب الخير لذاته إلى حب الخير لغيره كحبه لذاته، وهو مبدأ شدد عليه نبي الإسلام في الحديث الشريف الذي رواه أنس رضي الله عنه في الصحيحين حين قال صلى الله عليه وسلم:
(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
ولا يمكن أن نصل إلى ذروة هذا الأمر إلا بمحاربة الفساد بأنواعه الظاهر منه والخفي.
أما الظاهر فهو كل قول أو فعل فاسد ارتكبه العبد – ذكرًا كان أو أنثى – مخالف للشرع أو النظام، فيه ضرر عام أو خاص، ويعود على المرء أو غيره بالنفع المادي أو المعنوي. وقد تكفلت أجهزة الدولة – أعانها الله – بمحاربة هذا النوع من الفساد بكافة أنواعه ووسائله، وكم سمعنا وقرأنا ولا زلنا على جهود هيئة الرقابة ومكافحة الفساد في هذا الشأن، ولا يزال أمامها الكثير.
أما الفساد الخفي – وهو المقصود بهذا المقال – والذي لا يقل ضررًا من وجهة نظري عن الفساد الظاهر، فهو كل قول أو فعل فاسد لم يرتكبه المرء بنفسه لكنه على علم به ولم يقم بأي إجراء لتعديله أو الإبلاغ عنه، ظنًّا منه أن عدم ارتكابه له سينجيه من المساءلة عنه، خاصة أمام الجهات المسؤولة. كمن يرى غيره يتجرأ على أخذ المال العام أو الخاص بطرق غير مشروعة ولا يبالي بنصحه لتصحيح ما أفسده أو الإبلاغ عنه، أو كمن يتولى من أمر المسؤولية شيئًا فيعلم عن فسادٍ ما ارتكبه غيره، سواء في فترة مسؤوليته أو في فترة من سبقه، فلا يتخذ عليه أي إجراء لأسباب يرى أنها مقبولة عنده، كخوفه على مصالحه الشخصية أو خشيته من الدخول في مشاكل مع من ارتكبه، أو حتى بذريعة أن الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد، فيفضل البعد عنه.
وهنا نقول إن هذا الموقف السلبي هو مكمن الخطر وبيت الداء، فالفساد كالعفن عندما يصيب جزءًا من الطعام لا يلبث حتى ينتشر في الطعام كله. ومن هنا تأتي مسؤولية الفرد المسلم أمام الله أولاً، ثم المجتمع الذي تمثله الدولة ثانيًا.
ولذلك أتى الإسلام بنشر قيم المسؤولية التي تقع على عاتق الفرد أمام الله ثم خلقه، وقد أتت التعاليم الإسلامية في هذا الشأن صريحة وواضحة؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وقد قال الله عز وجل عن أداء الشهادة:
(ومن يكتمها فإنه آثم قلبه).
وجاء في الحديث الشريف التأكيد على بذل النصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين وخاصتهم:
“من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.
لذا يخطئ – ثم يخطئ – من يرى فسادًا يفعله الآخرون ولا يحرك ساكنًا بنصح أو إبلاغ عنه لمن بيده تعديل الأمر وإصلاحه، فالفساد خرق في السفينة التي يسكنها الجميع، وإذا تغاضى الناس عنه بحجة عدم ارتكابه غرقت السفينة وغرقوا معها لا محالة.
لذا أناشد وأشد على يد كل من يعلم عن فسادٍ ما أن يقوم بإبلاغ الجهات المختصة، سواء المسؤولين بتلك الجهة التي يقع في دائرتها ذلك الفساد إن أصلحوا الأمر، أو الجهة الرقابية المسؤولة في الدولة، وهي هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، لإبراء ذمته أمام الله وإخلاء مسؤوليته أمام ولاة أمره ووطنه






