في الوقت الذي تتجه فيه المملكة إلى رفع كفاءة الإنفاق الحكومي ضمن “رؤية 2030”، لا تزال بعض المؤسسات التعليمية، خصوصًا الجامعات الحكومية، تُنفق مبالغ طائلة على مشاريع عمرانية ذات مردود تعليمي ضئيل. تُبنى الأسوار العالية، وتُخصص مساحات شاسعة غير مستغلة، وتُشيد مبانٍ مترامية الأطراف، في مشهد يوحي بإنجاز عمراني، لكنه يخفي وراءه فاقدًا اقتصاديًا طويل الأمد.
وما نشاهده من فوضى في المساحات والأسوار يعد دليلًا على خلل في التخطيط، فعند زيارة العديد من الجامعات السعودية، يلحظ المتابع وجود تصاميم تعتمد على التمدد الأفقي بدلاً من الكفاءة الرأسية أو التكامل المكاني. فنجد أسوارًا ضخمة تُكلف عشرات الملايين دون قيمة تعليمية حقيقية.ومبانٍ متباعدة تتطلب صيانة مستمرة ونقل داخلي. ومساحات فارغة لا تُستغل علميًا ولا اقتصاديًا، بل تتحول إلى عبء بيئي ومالي. وغالبًا ما تأتي هذه التصاميم استجابة لفكرة قديمة؛ تعتبر ضخامة المبنى معيارًا لمكانة الجامعة، في حين أن الجامعات العالمية المصنّفة مثل MIT وأكسفورد وسنغافورة الوطنية، تعمل ضمن أحرم جامعية مدمجة وفعّالة.
اما عن البعد الاقتصادي لهذا الفاقد، فنجد تكاليف ضخمة ومستمرة. فوفق تقديرات بعض العقود المنشورة في بوابة “اعتماد”، تتراوح تكلفة بناء السور الواحد في بعض الجامعات بين 30 إلى 80 مليون ريال، بينما تتجاوز تكاليف المساحات والمباني المرافقة مئات الملايين، أحيانًا دون تشغيل فعلي أو حاجة وظيفية لها. وكذلك تكاليف التشغيل والصيانة، حيث تُضيف المباني المتباعدة والمساحات الشاسعة عبئًا ماليًا سنويًا على بند: الكهرباء والتكييف، الأمن والسلامة، النقل الداخلي، النظافة والتشغيل، الصيانة الدورية. وهي تكاليف متراكمة ومستمرة تُستهلك من ميزانيات الجامعات سنويًا على حساب الدعم الأكاديمي والبحثي.
واذا ما أخذنا مبدأ الفرص الضائعة، فنجد
ان كل ريال يُنفق على مساحة غير ضرورية كان بالإمكان توجيهه إلى: تمويل بحوث تطبيقية. او تحسين بيئة الطالب الأكاديمية او جذب كفاءات علمية او رقمنة التعليم وتحسين أدواته. بهذا، فإن تكلفة الفرصة البديلة هي أحد أهم أوجه الهدر غير المرئي، لكنها الأكثر خطورة على مستقبل الجامعات.
وهناك أيضًا بعدًا إجتماعياً وإداريًا، حيث ان هذه التصاميم تُعيق التفاعل والتكامل الأكاديمي، فالتنقّل بين الكليات أو الأقسام يصبح مرهقًا للطلاب وأعضاء هيئة التدريس، ويقلل من فرص الحوار، والنقاش العلمي، والتكامل البحثي، وهو ما يخالف فلسفة الجامعة الحديثة باعتبارها منصة تفاعلية للعلم والمعرفة.
بيد ان هناك حلولا عملية لتقليل الفاقد وزيادة الكفاءة، ومنها:
1. تطبيق معايير الاقتصاد الحضري (Urban Economics) فبناء حرم جامعي مدمج (Compact Campus) يقلل التكاليف التشغيلية بنسبة قد تصل إلى 30%، ويزيد من الكفاءة المكانية، ويهيئ بيئة علمية أكثر حيوية.
2. تحويل المساحات الزائدة إلى موارد اقتصادية، كتأجيرها كمرافق بحثية أو تجارية مرتبطة بالتعليم. او تحويلها إلى حدائق مجتمعية أو منشآت رياضية مدرّة للدخل.إنشاء او مراكز ابتكار وحاضنات أعمال.
3. اعتماد مبدأ “الجدوى الاقتصادية” في المشروعات، فقبل تنفيذ أي مشروع إنشائي، يجب إعداد دراسة جدوى اقتصادية مفصلة تشمل: التكلفة الإجمالية للمشروع وتحليل الكلفة والعائد الأكاديمي والعمر التشغيلي ومقارنة البدائل.
4. إعادة تصميم النماذج الإدارية والرقابية مثل تشكيل لجان فنية مستقلة لتقييم المخططات العمرانية و إشراك الأكاديميين والمستفيدين في التصاميم، وربط الصرف الإنشائي بمؤشرات الأداء التعليمي، وليس مجرد الإنجاز الهندسي.
وختامًا، إن الجامعة ليست ساحة معمارية بل منظومة فكرية. وكل متر إسمنتي يُبنى بلا حاجة هو متر ينتقص من مكتبة، مختبر، أو منحة بحثية. ومن هنا، فإن مراجعة خطط الإنفاق العمراني ليست مسألة مالية فقط، بل قضية استراتيجية ترتبط بجودة التعليم واستدامة التنمية. وإذا كانت المملكة قد نجحت في تحقيق كفاءة عالية في مشاريعها الوطنية الكبرى مثل “نيوم” و”القدية” عبر تخطيط ذكي وإدارة مرنة، فإن جامعاتها أولى بأن تتبنى النهج ذاته، لتتحول من مبانٍ تستهلك إلى مؤسسات تُنتج.
• اكاديمي سابق وخبير اقتصادي
مقال رائع واتمنى ان تاخذ به الجامعات