المقالات

بين الالهام والإطعام وأيام في البلدالحرام

كما تمر ومضة برق خاطف حنون، مضى عقدان من الزمان عشتهما عملا وأملا وحبا في البلد الحرام تغمرني سحائب الحب والكرم والأصالة …هنالك حيث تنحر العشار وتتمدد الموائد .هناك تعزف سمسميات الساحل الغربي و تلتمع أنجم جدة وأصوات مساجدها ومآذنها حيث تُفتتح لوحة الفجر ويسعى الساعون الى مساجدهم فرحين مستبشرين. ولئن كانت الأطياف العذبة تنطوي سريعا ، غير أن الضياء الذي رافقها يظل نبراسا لك في عتمة أيامك وصلا لا ينقطع وهياما يتجدد وكما قال الزعيم الراحل اسماعيل الأزهري فإن البحر الأحمر بين السودان و البلد الحرام واصل وليس بفاصل.

لقد شرفني الله تعالى عبر عقدين من الزمان أن أكون شاهدا على نذر من قصص التنمية في البلد العزيز المملكة العربية السعودية.
كنت ضمن من عملوا في مشروع مدينة ينبع الصناعية التي كانت قفرا في الزمن القديم قال عنها امرؤ القيس :
وواد كجوف العير قفر قطعته
به الذئب يعوي كالخليع المعيِّل
قُلتُ لَهُ لَمَّا عَوى: إنّ شأننا ..
. قليلُ الغِنى إن كنتَ لَمّا تَمَوَّلِ

في مشروع الهيئة الملكية بينبع ، أضاء الملك الراحل خالد بن عبدالعزيز طيب الله ثراه مصابيح ارتفعت فيها أدخنة المصانع وتمدد خط الزيت الخام من الشرق الى الغرب. تلك لعمري صحراء ألهمت ظباؤها ذات يوم محابر الشعراء ومزامير الرعاة وأغاني أمطرت نرجسا في قلوب العاشقين. ثم كان مصدر تشرفي الآخر الخطوط الجوية العربية السعودية، فمع ترجل معالي الشيخ كامل سندي، كنت شاهدا على استمرار بناء اسطول ضخم من طائرات البوينج والترايستار يومها. وفي عهد معالي الكابتن أحمد مطر، أمطرت الخطوط الجوية العربية لؤلؤا وعضت على عناَّبها ببرد كان عماده ارتفاع حصتها في سوق النقل الجوي العالمي وانضمامها الى نادي العظماء من عمالقة الطيران. لم يعمل كابتن مطر من نظريات الكتب ولكن بنظرات نسر يعرف اتجاهات الرياح ولغة الفضاء موقنا بأن البيان بالعمل لا بالتنظير. ويسعد القلب أن من يتولون أمرها الآن يسيرون بها قدما بوعي وعلم وتركيز وقيادات تنفيذية عالية التأهيل ينقلونها من نجاح الى نجاح وهي تحلق براية التوحيد وتقف بشمم في عالم النقل الجوي.
لقد ثارت في قلبي المفعم بحب المملكة العربية السعودية وأهلها الكرام البررة بدءا بمؤسسها الحكيم وأبنائه ورثة الحكمة من بعده، كتابان قيمان من رجلين متميزين هما الأستاذ حسن العمري ” حديث العمر” والأستاذ عبدالرحمن سعد الهلالي مدير عام تموين السعودية سابقا “قصة ومفاجآت انشاء تموين السعودية”
في مرور جللته روعة السرد، في كتاب حديث العمر للاستاذ حسن العمري الذي وصلني تفوح بين صفحاته رائحة البلد الحرام ، وجدت أن الكتابة عن تجارب وخواطر العمر ، أمر برع فيه حسن العمري. ذلك لأن من يقدم اضاءاته هنا وهناك في زوايا العمر هو أمر يتعلق بطبيعة النفس البشرية التي سواها الخالق وألهمها، والخالق جل وعلا يقول وفي أنفسكم أفلا تعلمون. لقد كان في نفس الأستاذ حسن عطا الله العمري الكثير المثير والموحي وهو يكتب بلسان عربي مبين. فمن طائرته الورقية الى فانوس جده وحواريها وطرقات مكة المكرمة . بحنين عارم يكتب العمري عن صباه فمن مدارس الثغر الى قصر حزام. ولئن أبدع العمري في قوله عبر أحاديث عمره الا أنه أقر بعجزه عن قول كل شيء في حق أمه الحبيبة وهذا في تقديري من أسمى عبارات النقاء والبر. بهذه العاطفة الجياشة يكتب العمري عن تجربة والده في الحياة دلالة على أن نقل تجارب الزمن الجميل كما سماه حسن، هو نقل لتجارب واقعية يجب ان يترسمها جيل الحاضر في وطن يحض تراثه الديني والاخلاقي على القدوة الحسنة والسلوك القويم، وهكذا فان أحاديث العمري عن الأزمنة والأمكنة تذكرني بقول الشاعر:
قد يهون العمر الا ساعة
وتهون الأرض إلا موضعا

مذكرات العمري الجذابة هي غوص ملهم وحنون عبر السنين.دلالة على أن المذكرات وسيلة فعّالة للتأمل في التجارب التي شكّلت حياتنا، فهي تُتيح لنا منظورًا شخصيًا نستكشف من خلاله أعماق أفكارنا ولحظاتنا المُلهمة. سواءً كنت توثّق رحلة اكتشاف الذات، أو مواجهة الشدائد، أو قصة صمود، فإن المذكرات تُتيح لنا التواصل مع حقائقنا ومواضع الشجن والالهام فيها.
قرأت خواطر العمري فوجدت أنها هي التي قرأتني لأن الخاطرة هي شلاّل الشعور الدافئ، فهي ليست نظماً بارداً، بل هي ساخنة، صادقة، مجرّدة من التكلّف، وهي نثرٌ في الشكل، وشعر في الجوهر، غير محدّدة بوزنٍ موسيقي أو قافية، وهي فنّ أدبي متشابهة في مضمونها وأسلوب كتابتها مع القصّة القصيرة، والقصيدة النثريّة، والرسالة. الخاطرة المميّزة تحتاج في كتابتها إلى موهبةٍ عالية التركيز تترجم فيها الأحاسيس بإبداع حسّي، ومعانٍ عاطفية عميقة تعبّر عمّا يجول في خاطرنا، ليبقى الإبداع أمنيةً يسعى إليها الجميع. فيقول الدكتور عزّ الدين إسماعيل في كتابه (الأدب وفنونه) عن فن الخاطرة: “وهذا النوع الأدبي يحتاج في الكاتب إلى الذكاء، وقوة الملاحظة، ويقظة الوجدان، ولأن خيال الشعر يرتاد الثريا ، فقد أدخلت يدي في جراب الشعر العربي عند تلقفي لكتاب الهلالي متذكرا ما قاله عمنا الشاعر العربي القديم المقنع الكندي حينما لامه قومه على أنه يستدين لكي يطعم الناس فأجاب:
يعاتِبُني في الدينِ قَومي وَإِنَّما
دُيونيَ في أَشياءَ تُكسِبُهُم حَمدا

أَلَم يَرَ قَومي كَيفَ أوسِرَ مَرَّة
وَأُعسِرُ حَتّى تَبلُغَ العُسرَةُ الجَهدا

فَما زادَني الإِقتارُ مِنهُم تَقَرُّباً
وَلا زادَني فَضلُ الغِنى مِنهُم بُعدا

أَسُدُّ بِهِ ما قَد أَخَلّوا وَضَيَّعوا
ثُغورَ حُقوقٍ ما أَطاقوا لَها سَدّا

وَفي جَفنَةٍ ما يُغلَق البابُ دونها
مُكلَّلةٍ لَحماً مُدَفِّقةٍ ثَردا

في خاصرة الصحراء العربية يرقد مبني تموين السعودية كظبي ناعس رأينا فيه كيف ان جفان الهلالي وعلي محرق وصحبهم تدفق ثريدها ولحمها لاطعام ركاب العالم وكيف أنهم جعلوا من ذلك المرفق النفيس بيتا عالميا قدم لركاب العالم قرصان الرياض وكافيار البحر الأسود. يومها أخذ تموين السعودية الكرة ورمى بها في ملعب شركات الطيران الخليجية المتفرع من المجلس الاقتصادي لمجلس التعاون الخليجي حينما أنشأ الكابتن مطر وعلى محرق بالاشتراك مع الاستاذين احمد المشاري وعلى المالكي في طيران الخليج والكويت المطعم الاسلامي بمطار هيثرو بلندن بالاشتراك مع شركة ماريوت العالمية للفنادق والتموين.
لا غرو اذن أن يكتب الهلالي عن نجاحات الجفان العربية مكللة اللحم مدفقة الثرد ونحن بصدد شاعر قديم من هذه الجزيرة عقر راحلته ذات يوم للعذارى هو امرؤ القيس:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
فيا عجبا من كورها المتحـمل

فظل العذارى يرتمين بلحمها
وشحم كهداب الدمــقس المفتل

هكذا أسميت كتابي الهلالي والعمري كتابي الالهام والاطعام فقد ألهماني بما فيهما من الهام هذه الخواطر وأطعماني صدق التعبير وطلاوة الخاطر. ولي في الختام انحناءة حب وتعظيم وتقدير لسيدي خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الحصيف الذي يبحربسفينة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلد الحرام بعزم أكيد ورأى سديد وحكمة عالية المعاني ..حكمة ليست غريبة على هذا الحُكم الراشد والشعب النبيل…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى