لو نزل القرآن اليوم إلى غرف الأخبار، لوجد الصحفيون فيه أول ميثاق شرف مهني سبق كل النقابات وكل المؤسسات الإعلامية؛ فلم يكن الإعلام يومًا مجرد أداة محايدة أو قناة عابرة للأخبار، بل ظل عبر التاريخ ساحةً للصراع على الحقيقة والمعنى، ومحركًا للوعي الجمعي.
واليوم، في عصر الحروب الرقمية بين التلفزيون ويوتيوب، وبين القنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي، يعود السؤال عن معنى الإعلام ووظيفته. لكن المفاجأة أن القرآن الكريم سبق هذا الجدل بأربعة عشر قرنًا، حين وضع أول دستور إعلامي للبشرية، قائم على الصدق، والتثبت، والحكمة، والبلاغ المبين.
فمنذ لحظة الوحي الأولى، ارتبط الإعلام القرآني بالقيام برسالة الحق، إذ خاطب الله رسوله الكريم بقوله:
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ﴾ (المدثر: 1-2)
وهو خطاب مباشر لا يعرف التورية ولا الانتظار، يتجاوز حدود الفرد ليصوغ وعي الجماعة، ويؤكد أن البلاغ مسؤولية أخلاقية، لا مجرد عملية نقل خبرية، وهو ما تجسده الآية الجامعة:
﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ (النور: 54)
وإذا كان الإعلام الحديث يواجه اليوم معضلة الأخبار الزائفة والشائعات المفبركة التي تنتشر في دقائق عبر الهواتف والشاشات، فإن القرآن سبق إلى وضع القاعدة الأخلاقية الكبرى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6)
أليست هذه الآية هي نفسها ما تحاول كبريات المؤسسات الإعلامية اليوم صياغته في لوائح التحقق من الأخبار وقواعد مواجهة التضليل الرقمي؟ وكيف يختلف ما جاء في القرآن عن كل محاولات الصحافة العالمية لوضع مواثيق شرف مهنية؟ إن ما يبحث عنه الإعلام في مواجهة “ترند” مزيف، أو تغريدة مشبوهة، أو إشاعة قد تُشعل بلدًا، قد فصّله القرآن بوضوح منذ قرون.
لكن الإعلام القرآني لا يقف عند التثبت من الأخبار، بل يحدد أيضًا أسلوب الخطاب، وبينما يسيطر الصخب والإثارة على منصات اليوم، جاء التوجيه الإلهي ليؤكد أن الإعلام الحق يقوم على الحكمة والإقناع بالحجة:
﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125)
وهذه ليست مجرد آية في سياق دعوي، بل قاعدة لإعلام رشيد، لا يُهيّج ولا يُضلل، بل يُربي ويُقنع، يبني العقول قبل أن يُلهب العواطف. ولأن أخطر ما يُصيب الإعلام هو أن يتحوّل إلى منبر للكذب وترديد ما لا أساس له، فكان التحذير القرآني صارمًا:
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ (الإسراء: 36)
تُعد هذه الآية صياغة تختصر جوهر المسؤولية الإعلامية، وتسبق بمئات السنين كل ما سُمّي لاحقًا بـ “مواثيق الشرف الإعلامي”.
وإذا كانت الخوارزميات اليوم تتحكم في صياغة الرأي العام، تقرر ما نراه وما يُحجب عنا، وتفرض على الجمهور أجندة لا علاقة لها بالحق ولا بالمصلحة العامة، فإن الإعلام القرآني يعلو فوق الحسابات التجارية والسياسية، ويعيد تعريف الإعلام باعتباره رسالة ومسؤولية، لا سلعةً للبيع، ولا سلاحًا بيد المؤسسات العملاقة.
وعليه، فإن الإعلام في القرآن ليس ماضيًا نعود إليه للتاريخ، بل حاضرٌ نحتاج أن نستعيده للبقاء؛ ففي زمن يغرق في الفوضى الرقمية، ويكاد الحق يضيع في زحمة الأصوات المتصارعة، يقدم القرآن صياغة أبدية:
إعلام يحرّر الإنسان من الزيف، ويهديه إلى الحكمة، ويؤسس لوعي قائم على الصدق والعدل.
ويبقى السؤال الملح:
هل يملك الإعلام الحديث الشجاعة ليستلهم هذا المنهج؟
أم سيظل يلهث وراء أخبار مزيفة وترندات سريعة، بينما الحقيقة تُدفن تحت ركام الضوضاء
