المقالات

نعيم يتجاوز الخيال: كيف نفهم الجنة بعيدًا عن الصور المشوهة؟

في فضاء السوشال ميديا، تتكرر بين الحين والآخر مقاطع ومقولات تختزل الجنة في الإسلام إلى صور مثيرة للجدل: حوريات وولدان، أنهار من الخمر، ملذات حسية بلا حدود، فيُصوَّر الأمر وكأنه وعدٌ ذكوري قائم على شهوات رجل عاش في صحراء القرن السابع، وهذه الصورة المبتورة تثير الانبهار لدى بعضهم، والرفض لدى آخرين، لكنها في حقيقتها اختزال ظالم للنصوص، وقراءة مجتزأة لا تُنصف العقل ولا تتفق مع جوهر الوحي.

إن أول ما يجب التنبيه إليه أن القرآن حين يصف الجنة لا يخاطب أرواحًا معلّقة في الفراغ، بل يخاطب بشرًا محدودي التجربة، لم يروا من الحياة إلا طعامًا وشرابًا وزواجًا وأمنًا عابرًا، فكيف يمكن أن يُقرب لهم حقيقة نعيم أبدي يتجاوز حدود الزمان والمكان؟، والسبيل الطبيعي أن يُشبَّه لهم بما يعرفونه، ثم يُبيَّن أن الحقيقة أوسع وأعظم، ولهذا قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ ، وجاء حديث الرسول ﷺ ليؤكد: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، أي أن ما نقرؤه من أوصاف إنما هو تقريب للمعنى، لا النهاية المطلقة.

المشكلة أن بعض المنتقدين يقفون عند ظاهر النصوص وكأنها الوصف الكامل، فيرون الجنة مجرد ولائم أو قصور شهوات، بينما هي في حقيقتها حالة من الكمال الوجودي: لا خوف، لا حزن، لا نقص، طمأنينة كاملة، ورضوان أبدي، والأعظم من ذلك كله: رؤية وجه الله تعالى، كما قال عز وجل: ﴿لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾، والمزيد عند جمهور المفسرين هو النظر إلى الله جلّ وعلا، وهو النعيم الأسمى الذي لا تدانيه لذة حسية.

أما المرأة، فقد اعتاد المشككون أن يقدّموا الصورة وكأنها محرومة، أو مجرد تابع للرجل، وهذا باطل، فالآيات جاءت عامة: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، والآية لم تخص جنسًا دون آخر، بل جعلت النعيم مشتركًا، وعدل الله المطلق يمنع أن يُعطى فريق دون آخر، فالجنة دار جزاء وكمال، لا دار ظلم أو غبن.

ولعل ما يثير الالتباس أن بعض المرويات والأحاديث الصحيحة أو الضعيفة ركّزت على جوانب مثل كثرة الأزواج أو الحور العين، فتوهم البعض أن هذا هو لبّ النعيم، لكنّ العلماء بيّنوا أن هذه الأوصاف جاءت تحفيزًا وتقريبًا للفهم، لا حصرًا للنعيم ولا تعريفًا بجوهره. إن من يحصر الجنة في هذه المشاهد إنما يظلم النصوص ويسيء إلى مقصدها الأعمق.

بل إن السؤال نفسه: لماذا خمر وحوريات وخدم؟ يغفل عن حقيقة أن الآخرة عالم آخر، قوانينه ليست كقوانين الدنيا، فالخمر هناك لا يُذهب العقل ولا يورث سكرًا: ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ﴾، والطعام لا يسبب ثِقلاً أو مرضًا، واللذة لا يعقبها ملل، نحن أمام تحول وجودي كامل، لا نسخة مكررة من نوادي الدنيا أو أحلام البشر.

ومن الإنصاف أن نذكّر أن هذه التصورات عن نعيم ما بعد الموت ليست حكرًا على الإسلام؛ ففي التراث المسيحي واليهودي نجد إشارات إلى الولدان والقصور والخمر، كل ذلك محاولات بشرية لتقريب ما لا يمكن للعقل البشري أن يتصوره، والفرق أن الإسلام جمع بين الوصف الملموس والتصريح بأن الحقيقة أعظم من كل وصف، فجعل المؤمن على يقين أن ما ينتظره لا يمكن أن يُختصر في خيال بشري.

وفي نهاية المطاف، أيها الأبناء والبنات… تذكّروا أن الجنة ليست “حفلة شهوات” كما يصورها بعض مقاطع السوشال ميديا، ولا “تصميمًا بدويًا” كما يزعم المشككون، إنها دار الخلود التي يجتمع فيها الجمال الروحي مع النعيم الحسي، حيث يصل الإنسان إلى أقصى مراتب السعادة والرضا، فإذا سمعتم مقطعًا يحاول أن يشوّه هذه الصورة، فلا تسمحوا له أن يزرع الشك في قلوبكم، عودوا إلى القرآن كله، لا إلى مقطع مجتزأ، وكونوا على ثقة أن الله أرحم وأعدل من أن يظلم عبدًا أو يُنقص مؤمنة من نصيبها. إن الجنة وعد الله الذي يتجاوز الخيال… فلا تجعلوا من الصور المشوهة حاجزًا بينكم وبين اليقين.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بارك الله فيك دكتور مطير
    وجزاك الله خير على الدرر التي لاتُستغرب من أهلها وأنتم لها .
    اللهم ارزقنا الجنة واجمعنا بوالدينا ومن نحب يارب العالمين

اترك رداً على محمد الغامدي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى