تشير تقارير السلامة المرورية إلى أن الغالبية العظمى من الحوادث لا تنتج عن أعطال تقنية في المركبات أو عيوب هندسية في الطرق، بل عن أخطاء بشرية صريحة. فالحوادث التي تقع بسبب خلل ميكانيكي أو بيئي تظل حالات نادرة مقارنة بالعدد الهائل للحوادث الناتجة عن سلوكيات بشرية متهورة، كالإفراط في السرعة، واستخدام الهاتف أثناء القيادة، وقطع الإشارات، والتجاوز في أماكن خطرة. لكن السلوك الإنساني لا ينبع من فراغ، فكل سلوك خاطئ تقف خلفه مشاعر داخلية وقناعات ذهنية خفية تغذّيه وتمنحه شرعية في نظر صاحبه، حتى وإن كانت هذه الشرعية وهمية تمامًا.
في هذا السياق، يبرز شعور إنساني عميق يفسّر كثيرًا من هذه السلوكيات المتهورة، وهو ما يُعرف في علم النفس باسم وهم المناعة (Illusion of Invulnerability)، ويُسمى أيضًا «التفاؤل غير الواقعي». طرح عالم النفس Neil Weinstein هذا المفهوم في ثمانينيات القرن الماضي حين أثبت أن البشر يميلون للاعتقاد بأن الأحداث السلبية أقل احتمالًا أن تصيبهم مقارنة بغيرهم، بينما يتوقعون أن الأحداث الإيجابية أكثر احتمالًا أن تحدث لهم. ومنذ ذلك الحين، أظهرت دراسات لاحقة أن الدماغ البشري يتعامل بانتقائية مع المعلومات، فيدمج بسهولة الأخبار الجيدة عن المخاطر، لكنه يتجاهل الأخبار السيئة وكأنها لا تخصه. وقد أثبتت أبحاث عديدة أن معظم السائقين يصنّفون أنفسهم بأنهم «أفضل من المتوسط» في القيادة وأقل عرضة للحوادث من غيرهم، رغم أن هذا مستحيل منطقيًا، لكنه شائع نفسيًا على نطاق واسع.
هذا الانحياز الذهني يفسّر مشهدًا مألوفًا على الطرق: شخص يشاهد حادثًا مروعًا فيه ضحايا وأشلاء متناثرة، ويعلم أن سببه استخدام الهاتف أو السرعة الجنونية، ثم ما يلبث أن يعود بعد دقائق ليكرر السلوك نفسه وكأنما الرسالة المروعة لم تكن موجهة إليه هو شخصيًا، بل للآخرين فقط. إن شعور «لن يحدث لي» هو وقود خفي يدفعه إلى تجاهل الخطر، وتحدي القوانين، والتقليل من قيمة التحذيرات، معتقدًا أن مهارته أو حذره كافيان ليجنّباه المصير نفسه الذي لقيه غيره.
ولمواجهة هذه الظاهرة، لا تكفي التوعية التقليدية بالإحصاءات والأرقام، بل نحتاج إلى توعية تستهدف الشعور الداخلي نفسه. فمجرد تعريف الناس بأن لديهم انحيازًا نفسيًا اسمه «وهم المناعة» يجعلهم أكثر يقظة، ويقلل من اندفاعهم نحو المخاطرة. كما أن سرد قصص واقعية لأشخاص عاديين ظنوا أنهم في مأمن ثم وقعوا في حوادث مروعة يترك أثرًا أعمق من أي بيانات جافة. ويمكن كذلك الاستفادة من تقنيات التغذية الراجعة الفورية أثناء القيادة عبر تطبيقات أو أجهزة ترصد السلوكيات الخطرة وتنبه السائق في لحظتها، ليربط بين سلوكه وخطورته فورًا. ومن المهم أيضًا إدراج برامج للذكاء العاطفي في تعليم القيادة، تُدرب السائقين الجدد على التعامل مع شعور الثقة المفرطة وفهم أن الحذر ليس ضعفًا في المهارة بل احترامًا للحياة. وأخيرًا، فإن تعزيز الرقابة الذكية والتشريعات الصارمة يحدّ من هذا الوهم، لأن من يظن نفسه محصنًا من الخطر يظن كذلك أنه محصن من العقوبة.
إن كسر وهم المناعة هو مفتاح خفض الحوادث، فحين يدرك السائق أن الخطر لا يختار ضحاياه، وأن مهاراته لا تمنحه حصانة سحرية من الأخطاء، سيتحوّل سلوكه من متهور إلى مسؤول، ومن واثق مفرط إلى واعٍ حذر، وحينها فقط يمكن أن تخفف دماء كثيرة من على الأسفلت.
0