الصورة تعد من أهم الوسائل الفنية – إن لم تكن أهمها على الإطلاق – التي تمكّن الشاعر من نقل أحاسيسه والتعبير عن معانيه وانفعالاته بقصد التأثير في غيره .
والصورة – شأنها شأن غيرها من الوسائل الفنية – ليست غاية في ذاتها , وإنما هي أداة فاعلة ومؤثرة من أدوات الشاعر , وقناة مهمة من قنوات التوصيل والإثارة , وهي تظل قادرة على التأثير في القارئ والسامع وتحريك ودانهما وهزّ مشاعرهما ما دامت بعيدة عن الافتعال والتكلف , وما احتفظت بطابع العفوية والتلقائية .
يقول الجاحظ : ” المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني , وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء , وفي صحة الطبع وجودة السبك , فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير ” ( [1]) . هذا الكلام العالي يقدم لنا مصطلحاً هاماً بالنسبة لموضوعنا , وهو التصوير , ورغم أن المصطلح كان يستخدم قبل الجاحظ إلا أنه هنا يكتسب دلالة خاصة ويشي – داخل سياقه – بثلاثة مبادئ , أولها : أن للشعر أسلوباً خاصاً في صياغة الأفكار أو المعاني , وهو أسلوب يقوم على إثارة الانفعال واستمالة المتلقي .
وثانيها : أن أسلوب الشعر في الصياغة يقوم – في جانب كبير من جوانبه – على تقديم المعنى بطريقة حسية , أي أن التصوير يترادف مع ما نسميه الآن بالتجسيم .
وثالث هذه المبادئ أن التقديم الحسي للشعر يجعله قريناً للرسم ومشابهاً له في طريقة التشكيل والصياغة والتأثير والتلقي , وإن اختلف عنه في المادة التي يصوغ بها ويصور بواسطتها .
وتنبع أهمية الصورة الفنية من طريقتها الخاصة في تقديم المعنى وتأثيرها على المتلقي , فيتعدى حدود هذه المتعة الشكلية , فتثير انفعالات المتلقي إثارة خاصة تدفعه إلى موقف أو سلوك . عند ذلك ندرك تجاوز تأثير الصور في ذاته إلى تأمل طبيعة الاستجابة التي تعقبه أو تصاحبه في ضوء تصور أعمّ يتصل بوظيفة الشعر وأهميته . ولن أزيد على هذه المقدمة , فحسبكم من القلادة ما أحاط بالعنق . ومع اللوحات التصويرية الفنّية في الشعر الجاهلي .
**- اللوحة التصويرية الأولى : قطاة زهير بن أبي سلمى
له قصيدة رائعة ذاتية تمس شغاف قلبه , قالها بمناسبة إغارة قوم من بني أسد على بني غطفان , يهجو فيها الحارث بن ورقاء الصيداوي , فغنم واستاق إبل زهر وراعيه يساراً ,ومطلع القصيدة ([2]):
بان الخليطُ , ولم يأؤوا لمن تركوا وزودوك اشتياقاً أيّةُ سلكوا
وفي مقدمة هذه القصيدة أنشد الأبيات التالية وقد تخيّل فيها فرسه في سرعة قطاة تلك قصتها ([3]):
|
كأنها من قَطا الأجبابِ حان لها |
وِرْدٌ وأفرَدَها عنها أُختَها الشَّبْكُ ([4]) |
|
|
جُونِيّةٌ كحصاةِ القَسْم مَرْتَعُها |
|
بالسِّىِّ ما تُنْبِتُ القَفْعاءُ والحسكُ |
|
أهوى لها أسفَعُ الخدّين مُطّرقٌ |
|
ريش القوادم لم تُنصَبْ له الشّرَك |
|
لا شَيءَ أجوَدُ وهي طيّبةٌ |
|
نَفْساً بما سوف يُنْجِيها وتَتَّرِكُ |
|
دون السماء وفوق الأرض قدرَهما |
|
عند الذُّنابي فلا فوتٌ ولا دَركُ |
|
عند الذُّنابي لها صوتٌ وأزملةٌ |
|
يكادُ يَخطفها طوراً وتهتلكُ |
|
حتى إذا ما هوتْ كفُّ الغلامِ لها |
|
طارت وفي كفه من ريشها بِتَكُ |
|
ثم استّمرت إلى الوادي فألجأها |
|
منه وقد طمع الأظفار والحنك |
|
حتى استغاثت بماءٍ لا رشاءَ له |
|
من الأباطح في حافاته البُرَكُ |
|
مُكلَّلٌ بأُصُولِ النَّجْمِ تنسِجُهُ |
|
ريحٌ خَريقُ لضاحي مائه حُبُكُ
|
|
كما استغاث بسْيءٍ فَزُّ غَيطَلةٍ |
|
خاف العيونَ فلم يُنظَرْ به الحَشَكُ |
|
فزَلّ عنها ووافى رأسَ مَرقبةٍ |
|
كمَنْصِبِ العِتْرِ دَمّى رأسَهُ النُّسُكُ
|
أمامنا اثنا عشر بيتًا تحدث فيها زهير الشاعر عن ذاتيته ومشاعره النفسية , تجلّت فيها لوحة تصويرية فنية بارعة من الداخل والخارج , رسمها بأدواته الفنّية عبر مناظر مشوقة ,دارت بطولة هذه اللوحة الفنية حول قطاته؛ لندرك من خلالها سرعة فرسه التي يتمناها ويهواها ويعشقها.
قال الأصمعي : ” ليس للعرب كافية أجود منها ومن التي لأوس بن حجر “([5]). وهي من روائع زهير ؛ لأن زهيراً فيها لا يسترجع ماله وعبده بسيف ولا بحرب , وإنما يسترجع ماله بالشعر لا غير ويهدّد بالهجاء .
ومحور الصورة في القصيدة الذي يدور حوله الشاعر , ويريد تبيانه هو سرعة هذه القطاة لندرك من خلالها سرعة فرسه التي يتمناها ([6]).
والمشبه في هذه الأبيات فرس زهير جرداء لا فحَجٌ فيها ولا صَكَكُ وهو يختال بها أمام الحي , لم يركب لحرب ولا لغارة ولا لصيد وإنما هي الفتوّة وفضل القوة والميعة والنّعمة , والقطاة المشبه به ([7]) فيطيل في وصفها, مما يدلّ على جوهرها ,
وليس كما يبدو أنها محض تصوير وتشبيه فحسب بل اتخذ من وصف فرسه ذريعة للدخول إلى عالم القطاة , فيقول فرسي كأنها من قطا أرضٍ ذات عيون وآبار, فيَفَد عليها الواردون, فهي منهم حذرة وجلة ولا سيما قد قنص أختها شبك الصائد القانص .
تلك القطاة قد تميزت عن غيرها أنها جونية الشكل , فهي من أضخم أنواع القطا مستوية الخلق شديدة قوية سريعة الطيران ,ترتع في السيْ وتلتقط من فقعائه ومن حسكه , فاشتدت وأخصبت عيشتها الطيبة الخصبة فجعلتها أقدر وأسرع لطيرانها على الطيران ,ولعلها قد أمنت من الصائد الذي حرمها أختها فتخفت وتوارت ,
وبعد أن نجت من الشبك ابتدرها صقر أسفع الخدين أشربت حمرتهما بسواد, فيلاحق هذه القطاة الملساء التي ساعدها استواؤها وملاستها على الإسراع فتدركه القطاة وتدرك معه ما يلاحقها من خطر الموت والافتراس فتزيد من سرعتها ,
ويعود إليها ما يكون قد فقدت من نشاطها ,فإذا كانت أسرع وهي آمنة طيبة النفس مطمئنة الفؤاد واثقة من النجاة , فكيف تكون سرعتها عندما يلاحقها الخطر من هذا الصقر الذي دنا وصار عند ذنبها وتكاد تقع بين مخالبه ؟ !!
وهنا يصل الصراع إلى قمته.” وهذا الصراع الحقيقي ليس بين قوتين جسديتين , ولكنه بين قوتين داخليتين منها الثقة والثبات , فانتصار القطاة في الواقع هو انتصار الذكاء والثقة بما تخطط له من نجاة ” ([8] ).
لقد حلّقا في الجوّ بين السماء والأرض فلا فوت ولا درك ,قد دنا من ذيلها , وعندئذ تسمع أزيز الأجنحة وأزملتها من شدّة الطيران ,تَجْدّ في طيرانها وتبلغ أقصاه ,فتهوي فتمتد إليها يدُّ صبيّ , فقبض عليها ويمسك بها , لكنها استجمعت قواها وأفلتت منه بأعجوبة , وطارت وفي كفّه من ريشها بتك .
يقول أبو موسى : ” وبلغ الشاعر ذروة التصوير والتأثير حين يصل بالصراع إلى قمته في قوله :
دون السماء وفوق الأرض قدرَهما عند الذُّنابي فلا فوتٌ ولا دَركُ
عند الذُّنابي لها صوتٌ وأزملةٌ يكادُ يَخطفها طوراً وتهتلكُ .
تأمل تكرار قوله : ( عند الذنابي ) , وهو قلب المعنى وأصله ومحوره والذي تَجبُ عنده القلوب وكأنه بهذا التكرار يضع عينك على هذه الصورة التي توشك أن تَحلَّ فيها النازلة بتلك القطاة الوادعة التي لا غاية لها إلا أن تَسْلم من شراسة العدوان , وقد حرص الشاعر على أن يُسْمِعَك صوت استغاثتها في تلك اللحظة البالغة الحرج , فقال لها صوت وأزملة ,
ولما انكشفت عنها هذه النازلة المهلكة وآوت إلى الأرض فوجئت بفزع آخر تهوي لها كفّ الغلام ” ([9]) فطارت وفي كفه من ريشها بتكُ .
فعاودها الصقر يطاردها ,فأبصرت وادياً من بعيد ,فأسرعت إليه , والصقر من ورائها يسرع ويسرع حتى تكاد تقع فريسة ينشب فيها مخالبه وحنكه, فألجأها الخوف الشديد منه إلى هذا الوادي المكلل بأصول النجم والطيور البيض حافة به ,وفيه الريح التي تمرّ على صفحته ,وتدغدغ حركة الماء وتصنع منه صوراً متلاحقة ,
ثم تمحوها ثم تصنعها ,وكأنه يؤنس فزعها بعدما انقض عليها هذا الصقر الذي أراد أن يلهو ويلغو بدمها فاختفت بين أشجاره ,وتوارت بين أغصانه ,قد استطارت فزعاً ,والتهب صدرها عطشاً فتلمح ماء نميراً في طرف هذا الوادي فتشرب منه يُسكّن شدة عطشها ,ويروي عروق خوفها.
أما الصقر فقد آوى إلى رأس مرقبة وأخذ يترصدها على صخرة ملطخة بالدم ,ومع هذا كله فلا زال شبح الخوف يحيط بها والموت يترصدها , فلم يطمئن قلبها ولم يهدأ روعها , ظلّت خائفة من هذا الصقر فهو على مرمى بصرها قد جعلت فمها في الماء وعينيها عليه .
وقد شبه الشاعر استغاثتها بهذا المنزل الذي أغاثها وهو الماء الذي يتحدر على وجه الأرض والطيور البيض من حوله وأصول النجم تصنع له أكاليل , شبه استغاثتها كاستغاثة الرضيع ( فزّ غيطلة ) بثدي أمه أو باللبن الباقي في ضرعها , يتجرعه ولا يكاد يسيغه ([10]).
” فأضاف إلى هذه الجنة المكللة بأصول النجم الرضاعة والولادة واللبن والفطرة كل هذا مقابلة منزل الأسفع على الصخرة الملطخة بالدم , كأنه وضع الحياة والنماء والفطرة والنمو والولادة والخصوبة في جانب , والصخر والدم والوحشة في جانب آخر, ولاحظ القطاة تستغيث بثدي أمها وهذه صورة خصبة وكأن هذه الأم هي الحياة التي يتهددها هذا الطاغي ” ([11]).
ولو قلبنا النظر في هذه الصورة نجدها من الخارج : قطاة جونية ملساء مكتملة الخلقة سريعة الطيران تطير بين السماء والأرض فلا هي محلقة بعيداً فلا ترى , ولا هي دانية من الأرض فتبطئ في طيرانها , تتنقل من مكان مخصب إلى وادٍ ممرع فيه الطير وفيه الماء والنبات .
وأما الصورة الداخلية, فهي وصف لمشاعر القطاة النفسية , فلا شيء أجود طيراناً منها , وهي طيبة نفساً , وهي تلجأ إلى الماء التجاء المستغيث , وهي مستقرة في نهاية المطاف ظاهراً خائفة باطناً
كما استغاث بسيء فزّ غيطلة خاف العيون فلم ينظر به الحشك .
كما أن لطيرانها مع الصقر وكان عند الذنابي لها صوت وأزملة , كما لم يفت زهير أن يحسن شكلها حيث حلأها الورد وهي كحصاة القسم والماء لا رشاء له وعلى حافاته البرك ومكلل بأصول النجم ولمائه حبك والصقر على مرقبة دامية ([12]) .
كما برع في صبغ لوحته الفنية بألوان زاهية صارخة , فالقطاة جونية والصقر أسفع الخدين والماء وضاح والطيور من البرك والمرقبة كمنصب العتر دميّ النسك , فالأبيض والأسود والأحمر أبرز الألوان في لوحة زهير وهي تشير في مجموعها إلى قلق نفسي رهيب .
وكان أهم عنصر اهتم به زهير في رسم الصورة هو عنصر الحركة , فجاءت الأحداث متسارعة ومتتابعة نرصدها فيما يلي :
أختها تقع في الشرك , وهنا نلحظ مباغته القانص , والصقر يهوي لها ويلاحقها كالموت , وهنا نجد مفاجأة الخطر ,والقطاة هوت, فامتدت لها كفّ الغلام فطارت. وتأمل الفعلين الماضيين ( هوت – طارت ) كيف أوحيا بسرعتها الفائقة , والريح خريق فهي متمردة .
وكان من لوازم الصورة لخدمة الغرض الأساسي وهو سرعة القطاة كان من براعة استكمال الصورة وإتمام مناظرها وجود بعض الشخيصات التي تسهم في حركة الأحداث , ومنها :
أخت القطاة التي تقع في الشرك وهنا تفزع القطاة وتطير . والصقر : الذي يلاحقها ويجد في ملاحقتها حتى لا تفتر سرعتها . والغلام الذي يقبض على خصلة من ريشها ,فكان هذا الخطأ دافعاً لها لسرعة الطيران والتحليق والمكان الذي بدأت منه الرحلة وانتهت إليه ومع هذا فما كانت آمنة فلا زال خطر الصقر والقانص يلاحقها وكأن هذه الأحداث المتسارعة تصور لنا ما حدث لقطيع زهير المغتصب وراعيه .
وخلاصة القول أن لوحة القطاة تجسيدٌ لانتصار الحياة على الموت , من خلال الصراع الحاصل بين القطاة التي ترمز إلى قوى الخير وبين الصقر الذي يرمز غلى قوى الشر , بطريقة تجعل من هذا الطائر قوة تتصدى للشر وتبطله وتعاقب صاحبه ,فهي لا تفوت الصقر فحسب ولكنها ترهقه وتبدد قواه وتتسبب في آن تدمي آخر الأمر رأسه حقاً , وكأن الشاعر يرمز ويلوح إلى أن اختار القطاة رمز السلام معادلاً لإبله وعبده وجعل الصقر معادلاً للإعداء بيد أنه جعل نهاية الصراع نجاة من القطاة من الصقر وخروجه من المعركة خائباً مما يؤكد عودة الإبل والراعي .
اللوحة التصويرية الثانية : بقرة الوحش لبيد بن ربيعة
|
فمضى وقَدَّمَها وكانت عادةً |
|
منه إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُها([13]) |
|
فتوسطا عُرْضَ السَرِىِّ وصَدَّعَا |
|
مسجورةً متجاوزاً قُلاّمُهَا |
|
أفتلك أَمْ وحَشِيْةٌ مَسْبُوعَةٌ |
|
خَذَلَتْ وهاديةُ الصِّوَار قِوامُها |
|
خنساءُ ضَيّعت الفَرِيرَ فلمْ يَرِمْ |
|
عُرْضَ الشّقَائِقِ طَوْفُها وبُغَامُها |
|
لِمُعَفِّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ |
|
غُبْسٌ كَوَاسِبُ لا يُمَنُّ طَعَامُها |
|
صادفن منها غِرَّةً فأصبْنَهَا |
|
إنّ المنايا لا تطيشُ سِهَامُها |
|
باتت وَأَسْبَلَ واكفٌ من ديمةٍ |
|
يُرْوِي الخمائلَ دائماً تَسْجَامُها |
|
يعلو طريقةَ متْنِهَا مُتَوَاتِرٌ |
|
في ليلةٍ كَفَرَ النجُومَ غَمامُها |
|
تَجْتاف أصلاً قالصاً مُتَنَبِّذاً |
|
بِعُجُوبِ أنقَاءٍ يَمِيْلُ هُيَامُهَا |
|
وتُضيءُ في وجه الظًلامِ مُنِيْرةً |
|
كَجُمَانَةِ البَحْرِيّ سُلَّ نِظَامُها |
|
حتى إذا انحسر الظّلامُ وأسفرتْ |
|
بَكَرَتْ تَزِلُّ عن الثّرَى أَزْلامُها |
|
عَلِهَتْ تَرَدّدُ في نِهَاءِ صُعَائِدٍ |
|
سَبْعاً تُؤَاماً كاملاً أيامُها |
|
حتى إذا يَئِسَتْ وَ أَستحَقَ حَالِقٌ |
|
لَمْ يُبْلِهِ إرضَاعُها وفِطامُها |
|
فَتَوَجّسَتْ رِزّ الأنيسِ فَرَاعَهَا |
|
عن ظهر غَيْبٍ والأنيسُ سَقَامُها |
|
فغدتْ كِلاَ الفَرْجَيْنِ تَحْسِبُ أنه |
|
مَوْلّى المخافةِ خَلْفُهَا وأمامُها |
|
حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا |
|
غُضْفاً دَوَاجِنَ قافِلاً أعصامُها |
|
فَلَحِقْنَ واعتكرتْ لها مَدْرِيّةٌ |
|
كالسمهرية حَدُّهَا وتَمَامُها |
|
لِتَذُودَهُنَّ وأيقنتْ إن لم تَذُدْ |
|
أن قد أَحَمَّ من الحُتُوف حِمامُها |
|
فَتَقَصَّدَتْ منها كَسَابِ فَضُرّجَتْ |
|
بِدَمٍ وغُودِرَ في المَكَرِّ سُخَامُها |
|
فبتلك إذْ رَقَص اللوامع بالضحى |
|
واجتاب أردية السراب إكامُها |
|
أقضي اللبنانة لا أُفرِّط ريبةً |
|
أوْ أن يلوم بحاجة لُوَّامُهَا |
هذه الأبيات من معلقة لبيد بن ربيعة تناول فيها تشبيه ناقته بالبقرة الوحشية , وبدأها برسم لوحة فنية متحركة بدأها في وصف تحرّك الأتان وعيرها في البيتين الأول والثاني , ثم بعد هذين البيتين يقصر حديثه ابتداء من البيت الثالث حتى نهاية هذه القطعة على الأتان / البقرة المسبوعة دون ذكر العير ودون أن نعلم من أمره شيئاً بعد توسطهما عرض السرىّ معاً . ولست أدري ما سبب هذا الانقطاع , وهو يعلم أن الأتان مقبلة على معركة شرسة وهي في أمس الحاجة للعون ,فأين وكيف اختفى فحلها ؟ إلا أن يكون في إفراد الأتان غرضٌ فني يقصده , وهو إثبات أهمية ناقته في حياته ومدى تعلقه بها .
أفتلك أَمْ وحَشِيْةٌ مَسْبُوعَةٌ خَذَلَتْ وهاديةُ الصِّوَار قِوامُها
خنساءُ ضَيّعت الفَرِيرَ فلمْ يَرِمْ عُرْضَ الشّقَائِقِ طَوْفُها وبُغَامُها
لِمُعَفِّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ غُبْسٌ كَوَاسِبُ لا يُمَنُّ طَعَامُها
صادفن منها غِرَّةً فأصبْنَهَا إنّ المنايا لا تطيشُ سِهَامُها
نحن إزاء صورة فنية رائعة نلحظ فيها حس الافتراس بارزاً على أشده , بدأها الشاعر بتشبيه ناقته ببقرة وحشية خنساء ( [14]) وفي الاستفهام الذي يطالعنا في أول البيت ” دليل على أن ما أضافته الصورة الأولى على ناقته من المعاني لم يكفه , ولم يبلغ عنده ما يريد فما تزال للصورة بقية , فإذا كانت ناقتي تشبه الأتان التي صورت لك من أمرها ما صورت – يقصد تصوير الناقة قبل هذه المقطوعة – فإنها كذلك تشبه البقرة المسبوعة التي افترس السبع ولدها حين خذلته وتركته وراءها …( [15]) .
راحت ترعى مع صواحبها , وغفلت عن ولدها , وهي تتبع الفحل الذي يتقدم القطيع ,فاحتازت السباع وليدها على غِرّة منها , فأضلته وهى لا تدري ما حلّ به مما سبب لها الخذلان والتأخر عن القطيع , ثم أخذت في التطواف تقطعه كله تروح فيه وتجيء ,تصور بغامها – صياحها هنا وهناك , وذهولها وهي تطوف في نطاق الأجمة ( عرض الشقائق ) غير أن تتجاوزها في محاولة يائسة للعثور عليه حياً , ولا شك أنها مأساة أليمة تسببت في وقوعها تلك الذئاب الغبس التي تنازعت بقية ولدها ولم تترك منه غير مزق معفرة بالتراب أحال لونها الأبيض إلى لون رمادي , وهذا سيكون له أثر عميق وجرح دام في نفسها ( [16]).
ولكي يزيد الشاعر من إحساسنا بوقع المأساة وفظاعتها التي لم يكن ثمة سبيل إلى الفرار منها أو تجنبها يضيف تلك الإضافة البارعة , الحكمة الناضجة يقول : ( إن المنايا لا تطيش سهامها ) تلك الحكمة التي أرسلها الشاعر فتلقفها سمع الزمان وظلّت أصداؤها تتردد على أسماعنا وألسنتنا إلى اليوم لقد ختم بها الشاعر المشهد الأول من مشاهد تلك الصورة التي يقدم من خلالها البقرة الوحشية التي انقطعت عن رفقتها لتواجه مصيرها منفردة ([17]) , وكأنه يفرغ خلاصة تجربته عن الموت , إذ ضمن حكمته هذه استعارة مكنية رائعة جعل فيها المنايا كالإنسان لها روح وجسد وحركة وتستعمل السهام لدى هجومها على الكائنات الحية , وهي لا تخطئ هدفها , ولا يعيقها شيء عن تحقيق مرامها .
وجاء تصوير الشاعر لحالة قتل فريرها – وليدها – تصويراً عنيفاً ورسالة واضحة إلى البقرة بأنها فقد ابنها إلى الأبد وأن أملها بالعثور عليه أصبح أملاً مفقوداً ؛ ولذلك تتنامى في نفسها حدّة الإحباط مثلما تنامت هذه الحدة في عجز الشاعر عن الوصول إلى محبوبته نوار التي يتضح من سياق المعلقة إعراضها عنه وجفائها له .
باتت وَأَسْبَلَ واكفٌ من ديمةٍ يُرْوِي الخمائلَ دائماً تَسْجَامُها
يعلو طريقةَ متْنِهَا مُتَوَاتِرٌ في ليلةٍ كَفَرَ النجُومَ غَمامُها
تَجْتاف أصلاً قالصاً مُتَنَبِّذاً بِعُجُوبِ أنقَاءٍ يَمِيْلُ هُيَامُهَا
وتُضيءُ في وجه الظًلامِ مُنِيْرةً كَجُمَانَةِ البَحْرِيّ سُلَّ نِظَامُها
ثم ينتقل الشاعر إلى معنى آخر متعلق بفقد الفرير , مصوراً آلامها ,حيث باتت البقرة ليلتها المروعة تلك باكية نائحة خائفة مفزوعة وسط ظلام دامس وقد لاذت بأصل شجرة قالصة تنهمر الأمطار المتلاحقة التي لم تنقطع طول الليل والتي تساقطت على متنها الأبيض ( يعلو طريقة متنها ) لا يغسل جسمها فحسب ,بل ويطهر نفسها أيضاً من آلامها لتخفيف العبء النفسي الناجم عن شعورها بالذنب لأنها قصرت في حماية وليدها , وتشتد ريح الشمال الباردة القاسية في ليلة مكفهرة غطّى الظلام كل شيء وحجبت السحب ضياء النجوم , فانتبذت لها مكاناً قصياً نائياً بين كثبان الرمال المتحركة , واحتمت به حيث دخلت في جوف شجرة بعيدة عن المسالك ([18]) . يقول :
تَجْتاف أصلاً قالصاً مُتَنَبِّذاً بِعُجُوبِ أنقَاءٍ يَمِيْلُ هُيَامُهَا
والشاعر بهذا الوصف يوحي إلى أن هذه الليلة لم تكن إلا انعكاساً لما في أعماق البقرة من ظلمة وسواد , والشجرة المنبوذة عن سائر الشجر التي تقلصت أغصانها ,وانكمشت من شدة البرد وكذلك لجوء البقرة إلى الكثبان الرملية التي تحيط بها من كل جانب لتشترك هي الأخرى في الإحساس بفظاعة الموقف , بل إن العدوى التي سرت من البقرة إلى الشجرة لتسري بدورها إلى كثبان الرمال التي لا تقوى على التماسك فتنهار وتتساقط تتقاسم مع البقرة فظاعة الموقف ( [19]) .
لقد استطاع الشاعر في البيت السابق أن يجمع كل هذه العناصر الإيحائية , وكيف أمكنه أن يخلع على كل شيء يحيط بالبقرة من شجر وأغصان ورمال معاني الجمود والبرودة والتقلص والنبذ والانهيار , ثم أليست هذه المعاني كلها رموزاً لما تعاني منه البقرة في مأساتها تلك .
وحينما صوّر الشاعر هذه البقرة لم يصور شكلها بمعنى لم تعن الصورة بالشكل والسرعة ,ولكنه عمد إلى تصوير نفسها الحزينة الملتاعة فكان أول ما يلاحظ في هذه الصورة البؤس القاتل والحنين الفياض ([20]) , حقاً لقد تعاطفت الطبيعة معها واجتمعت معظم عناصرها على شكل عباءة تلتف حول البقرة ؛ المطر والظلام والنبات والرمال , وتحجبها عن الوجود البصري . ثم يعقب ذلك بصورة شعرية ناطقة , يقول :
وتُضيءُ في وجه الظًلامِ مُنِيْرةً كَجُمَانَةِ البَحْرِيّ سُلَّ نِظَامُها
فقد ظهرت البقرة بمظهر عجيب في انفرادها وابتعادها عن رفيقاتها وشدّة بياضها وتحركها أشبه بالجمانة البحرية اللؤلؤة الفضية التي انقطع سلكها وانفصلت من عقدها فسقطت , وذلك أدعى لبروز ضوئها وأظهر لها حتى إذا انبلج الصبح خرجت وقوائمها تنزلق على الطين . لم يكفه أن يصفها بالجمانة , فوصف ضوءها في الظلام , ونسبها إلى موطنها , ثم فرط عقدها , لأن ذلك يصور حركتها الدائمة , إذ ليس هناك ما يمسك هذه الحركة . إنها صورة بارعة , ويبدو أن البقرة كانت شديدة البياض إلى الحدّ الذي جعل الشاعر يكني بالإضاءة عن كثرة بياضها .
وأضاف إلى هذه الصفة اضطراب البقرة في الظلام واعتزالها الوحوش ؛ ليكوّن صورة متكاملة انتزع لها صورة أخرى مقابلة من اللؤلؤ حيث شبه حالة البقرة في بياض لونها وانفرادها بحالة درّة انقطع سلكها , فسقطت وتناثرت على الأرض , فكان ذلك أضوأ لها , وكذلك البقرة كلما تحركت في الليل أشرق لونها ([21]).
لكن حشر مثل هذا البيت بين مجموعة من الأبيات تناقضه كلية من شأنه أن يقف كالصخرة في طريق دفعة الانفعال السائدة التي تغمر المقطوعة كلها . والدليل على ما ذهبنا إليه ما سيأتي بيانه بعد هذا البيت .
حتى إذا انحسر الظّلامُ وأسفرتْ بَكَرَتْ تَزِلُّ عن الثّرَى أَزْلامُها
عَلِهَتْ تَرَدّدُ في نِهَاءِ صُعَائِدٍ سَبْعاً تُؤَاماً كاملاً أيامُها
حتى إذا يَئِسَتْ وَ أَستحَقَ حَالِقٌ لَمْ يُبْلِهِ إرضَاعُها وفِطامُها
فَتَوَجّسَتْ رِزّ الأنيسِ فَرَاعَهَا عن ظهر غَيْبٍ والأنيسُ سَقَامُها
فغدتْ كِلاَ الفَرْجَيْنِ تَحْسِبُ أنه مَوْلّى المخافةِ خَلْفُهَا وأمامُها
وهذه الصور الحزينة التي رسمها الشاعر يبرز لنا فيها دور وموقف الأم الثكلى وما قدّمت وتقدم من تضحية وتفانٍ من أجل حياة ولدها وسعادته . جعلتنا هذه الصورة نستشعر هذا الانفعال والشجن والتعاطف مع هذه البقرة نحو ابنها وعمق الفجيعة لفقده , فبعد أن صور الناقة في تلك الليلة الرهيبة عاد ليتتبع خطاها في براعة عندما أسفر الصبح , فإذا ما انكشف الظلام وانحسر لم يزدها طلوع النهار إلا أسى ولوعة وإذا خطواتها على الثرى خطوات مهزومة مقهورة لا تكاد تمشي حتى تتعثر لا تساعدها قوائمها على حملها وإن حملنها فهي تنزلق بها على أرض هشة ورمال لا تتماسك بمكان تجمّع الماء المعروف ” بصعائد ” قضت في الاحتجاب سبعة أيام بلياليها تبحث عن وليدها , فما أشد ما نزل بها ! وما أعظم ما انتابها !
حتى إذا يَئِسَتْ وَ أَستحَقَ حَالِقٌ لَمْ يُبْلِهِ إرضَاعُها وفِطامُها
ثم يضيف الشاعر صورة أخرى وذلك عندما أراد أن يلفت الانتباه في الشطر الثاني من البيت إلى أن الذي أبلى ضرع البقرة وأبلاه بالجفاف وانقطاع اللبن لم يكن نتيجة الإرضاع أو الفطام , فهي لم ترضع ولم تفطم وإنما فقدانها لولدها وانقطاع أملها في لقائه هو الذي أبلى ضرعها الذي كان مليئاً باللبن أثناء حياة ولدها ولم يجف أو ينضب في إرضاعها وفطامها لأنها كانت تعطي ونفسها آمنة مطمئنة .
فما كادت البقرة تنتهي إلى اليأس من لقاء ولدها حتى يبدأ صراعاً بالغ الإثارة والتحدي مع الصياد الذي رماها بسهامه فأخطأته واستعصى عليه إصابتها فأرسل عليها كلاباً مدربة مسترخية الآذان سريعة كالسهام شرسة كالأسود ( [22]), وتشدنا في هذا المشهد قوة العاطفة وثباتها واستمرارها , فقد وفق الشاعر كثيراً في إشراكنا المعاناة والحزن والأسى , فبالإضافة لما هي فيه من انكسار وقهر وحسرة وجوع وهزال لم يتركها الصائدون بحالها , فأصواتهم تصل إلى مسامعها فتدرك أن الخطر يداهمها , وتحسب أن مكمن الخوف خلفها وأمامها .
فتوجست / وتسمعت رزّ الأنيس فرَاعَها عن ظهر غيبٍ والأنيسُ سقامها ([23])
وتبدأ الصورة بالفعل الماضي ( تسمعت ) وبعنصر صوتي مبهم مُقلق ( رِزّ ) وكلاهما يوحيان بأن الأمر كله محض تصوّر داخلي متولّد عن تزاحم الهواجس الداخلية التي تمور بها النفس المقهورة لهذه الأم , تسمع البقرة هذه الأصوات ويتنامى إحساسها بالخوف ( فراعها عن ظهر غيب ) ,
دون أن ترى عياناً أي شيء يدلّ على وجود ذلك الخطر لكنها قد علمت البقرة – بخبرتها – أنّ الصوت ليس صوت وحش , أو صوت عنصر من عناصر الطبيعة , إنما هو صوت بشري لصياد باغٍ يستهدفها هو داؤها وسقامها , فأدركت البقرة أن تكالباً مبيتٌ وقادمٌ ,
وأن معركةً حاميةً تدور فقد أقحموها في معركةٍ لا مناصَ فيها من مواجهة الخصم , فأطلقت ساقيها للريح وانطلقت في عدْوٍ سريع . عندئذ أطلق الرماة وراءها سهامهم ,فلما ذهبت هذه السهام أدراج الرياح ويئسوا من أن ينالوها بسهامهم أطلقوا وراءها كلاب الصيد المسترخية الآذان الضامرة البطون فلحقتها الكلاب . يقول :
فلحقن واعتكرت لها مدرية كالسمهرية حدّها وتمامها
يرتفع بوصف قوة البقرة وشدّة فتكها حتى جعل منها محارباً محنكاً بالحروب متمرساً بأساليبها فلدى إحساسها بالخطر المحدق بها واقتناعها بأن الجبن لا ينقذ حياتها اتخذت لها موقفاً بجعل المعركة تسير في صالحها لكنها لم تلبث أن رجعت إليهن في حال من التخبط والاضطراب تنجيها انعطافاتها السريعة من سهام الرماة فعطفت على الكلاب بقرن شديد كالرمح في شدته وطوله , وبادرت بالطعن لتمنعهن من الفتك بها , وكانت نتيجة المعركة أن تلطخت الكلبة ( كساب ) بدمائها بينما سقط أخوها ( سخام ) صريعاً .
وهنا استعار الشاعر الاعتكار للبقرة بدلاً من الرجوع ليشعرنا بمهارتها الفائقة . كما استعمل ( مدرية ) وهي الحربة بمعنى القرن ؛ليدلنا على صلابته ,ويكمل وصف ذلك القرن بتشبيهه بالرمح السمهري.
ثم يمضي الشاعر بعد هذا في مخاطبة صاحبته نوار التي قطعت ما بينها وبينه من علاقة بهجرتها له وانقطاعها عنه , وكأنه يريد أن يرسم لنا ملامح شخصيته أثناء قضاء تلك الليالي . ” والشاعر هنا يخاطب محبوبته نوار بلهجة متمردة , إذ يعبر عن انفعالاته النفسية بحيوية الشباب , بمكنونات حسية خرجت منه على شكل دفقات شعرية متلاحقة فهو يمتع نفسه بما تشتهي ولا يكترث للومة اللائمين” ([24] ).
يقول : فبتلك إذْ رَقَص اللوامعُ بالضحى واجتابَ أردية السراب إكامُها
أقضي اللبنانة لا أُفرِّط ريبةً أوْ أن يلوم بحاجة لُوَّامُهَا
أي : بتلك الناقة التي سبق تعداد أوصافها يقضي الشاعر حاجته ولا يفرط في أمرٍ يعود عليه باللوم , واستعمال الفعل المضارع ( أقضي ) إشارة إلى أن الحدث وارد في كل آن بدءاً من هذه اللحظة وامتداداً غير محدود عبر آماد المستقبل. وأما قوله : ( رقص اللوامع ) فلنا أن نتصور كل كيفيات الرقص وما يقترن به من ضروب التثني والالتواء وتناوب الحركات والهيئات , حتى يمكننا أن نتمثل كيفية إسنادها إلى الطرق التي تبرق بلمعان السراب ( [25]) . وتخصيص دلالة الضحى ؛ليؤكد على معنى التبين وانتفاء الضلال أو اضطراب الوجهة .
وإذا كان المألوف أن نرى السراب على الطرق فإن الشاعر يضيف هنا أن السراب كسا الجبال المحيطة كذلك أردية – ثياباً – سابغة من لمعانه فإذا ما تداخل هذا مع ذاك ,وانعكس الأول على الآخر بدت لنا أي صعوبة تواجه السائر المنطلق في هذا الوقت . وتطالعنا استعارة غريبة الأجزاء عجيبة التركيب , فيقول : بتلك الناقة أقضي اللبانة حيث ارتفع وانخفض الضحى ولبست المرتفعات ثياب السراب , ” فنراه قد اتخذ من السراب ثياباً نسجها الخيال الشعري وألبسها الآكام فتوهج الجوّ حرارة ؛ ليصور العناء الذي تقتحمه ناقته وتجتازه بنجاح ” ([26]).
وإن أول ما يسترعي اهتمامنا هو قدرة الشاعر على ترتيب الأحداث ترتيباً متسلسلاً , وقدرته أيضاً على توفير عنصر الحبكة القصصية , فما أن يفرغ من خطوة حتى يسلمك للأخرى وإن لم تكن متناسقة معها تماماً . ويلوح لنا في هذه الرؤية أن الشاعر أثناء سرده القصصي يأتي بالعقد المشوقة للحلول والمواقف الدقيقة التي لا تلبث أن تنفرج .
وكان للعاطفة دور قوي حيث أشركنا الشاعر معاناته وهمومه , فنراه يأتي بالمواقف المثيرة البالغة الحزن كفقد البقرة ولدها وقضائها أياماً بلياليها دون أن ترعى حتى جف ضرعها وهزل جسمها . وكذلك موقف الصائدين يحيطونها بسهامهم , ولكنها لم تمكنهم منها حتى لجأوا إلى إقحامها في معركة مع الكلاب تعوّدت الصيد فاكتسبت شراسة وليناً . وفجأة تنفك أزمتها وتأخذ بزمام المعركة وتخرج منتصرة بعد قتلها أشرس كلبين .
ويبدو لنا أن هذه اللقطات الفنية هي رحلة ذهنية تعبر عن أفكار الشاعر وتجربته الذاتية , اتخذت من الطبيعة مسرحاً لتجسيد عالمه النفسي , تضافرت عناصر الحدث : الناقة والحمار الوحشي والبقرة لتمثيل رحلته الشعرية والتعبير عن صراعاته الذاتية . وهو مذهب رمزي يدل على قدرة فنية في توحيد الحقائق وتوظيف مشاعر الحيوان كمعادل موضوعي يفرغ إليه الشاعر ,في مواقف وجدانية خاصة ( [27]) . وبذلك يكون قد ربط موقف البقرة الحزين مع ما يدور في نفسه من انفعالات .
وعندما نقلب النظر في هذه المقطوعة نجد حضوراً وتكاثفاً للفعل الماضي وظفه الشاعر أيّما توظيف للدلالة على السرد القصصي والانتقال وتحقق الأمر المحتوم . في حين أدت صيغة الفعل المضارع الواردة في المقطوعة استحضار صورة البقرة المسبوعة , والحدث مع الحركية والحيوية .
كذلك نستطيع القول أن الوحدة العضوية قد تحققت في هذه المقطوعة والتي قبلها , ورأينا أن قصة البقرة المسبوعة تتدرج في النمو وتتدافع الموجات العاطفية فيها حتى تبلغ نقطة تجمع واحدة .
ونرصد في هذه المقطوعة بعض المحسنات اللفظية التي زخرف بها الشاعر مقطوعته وساهمت في رفع وتيرة الأحداث فقد جاء التضاد بين تضيء والظلام , وأسحق ولم يبله , وخلفها وأمامها , ولحقن واعتكرت , وإرضاعها وفطامها . ونجد الترادف بين : فأصبنها ولا تطيش , واكف وديمة , تضيء ومنيرة , حسر الظلام وأسفرت , مدرية وسمهرية , الحتوف وحمامها . كما نرى الجناس واضحاً بين : ديمة ودائماً , لتذودهن وتذد , أحمّ وحمامها , يلوم ولوامها .
ونلمح تكراراً لحرفي ( حتى إذا ) في الأبيات ( 11-13-16) ممّا ساعد على قوة الربط بين الأبيات . وكذلك كلمة الأنيس في البيت (14) , وكلمة ( يئست ويئس ) في البيتين 13, 16. ومن الألفاظ المتضادة المعاني بذاتها كلمة ( مسجورة ) فهي هنا بمعنى مملوءة , وتأتي بمعنى فارغة , وكذلك كلمة الأنيس بمعنى العدو بينما تأتي بمعنى الأليف .
وتكثر في هذه اللوحة الفنية الألفاظ الدالة على الخوف والرهبة والرعب مثل : ( مسبوعة , حمامها , فضرجت بدم , تنازع شلوه , المنايا ) ,ومثل هذه الكثرة لا تخفى وراءها إلا حدّة الإحساس بالافتراس في روح الشاعر الهائمة التي يبرز فيها طابع الحزن وتختفي وراء معانيه عبارات كثيرة يلفها التوتر والقلق .
اللوحة التصويرية الثالثة : ظليم علقمة :
|
كأنها خاضبٌ زُعْرٌ قوائمُهُ |
|
أجنى له باللِّوَى شَرْىٌ وَتَنُّومُ |
|
يَظَلُّ في الحنظل الخُطْبَان |
|
وما اسْتَطَفَّ من التّنُّوم مخذوُمُ |
|
فوُه كشقّ العصا لَأْياً تَبَيّنُهُ |
|
أسَكُّ ما يسمع الأصوات مَصْلُومُ |
|
حتى تَذَكَّرَ بيضاتٍ وهَيّجَهُ |
|
يومُ رذاذٍ عليه الرّيح مغْيُومُ |
|
فلا تَزَيُّدَهُ في مَشْيِهِ نَفِقٌ |
|
ولا الزَّفِيفُ دُوَيْنَ الشّدّ مَسْؤُومُ |
|
يَكَادُ مَنْسِمُهُ يَخْتَلُّ مُقْلَتَهُ |
|
كأنه حاذرٌ للنّخْس مَشْهُومُ |
|
وَضَّاعَةٌ كَعِصِيِّ الشِّرْعِ جُؤْجُؤُهُ |
|
كأنه بتناهي الروضِ عُلْجُومُ |
|
حتى تلافى وقرْنُ الشمس مُرتفعٌ |
|
أُدْحِيِّ عِرْسَين فيه البيضُ مَرْكُومُ |
|
فطاف طوفين بالأدحيّ يَقْفُرُه |
|
كأنه حاذر للنخس مشهوم |
|
يأوي إلى خُرَّقٍ زُعْرٍ قوادمُهَا |
|
كأنهن إذا بَرَّكْنَ جُرْثُومُ |
|
يوحي إليها بانْقَاضٍ وَنَقْنَقَةٍ |
|
كما تراطنُ في أَفْدَانها الرّومُ |
|
صَعْلٌ كأنّ جناحيه وجؤجؤه |
|
بيتٌ أطافتْ به خرقاءُ مهجومُ |
|
بيتٌ أطافتْ به خرقاءُ مهجومُ |
|
تُجِيبُهُ بزِمارٍ فيه ترنيمُ([28]) |
يقول ابن الأعرابي : ” لم يصف أحد قط النعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة ..”( [29]) , حقاً إننا أمام لوحة فنية في منتهى الإبداع والإمتاع , قصة اكتملت عناصرها الفنية إلى حدٍ ما , ” الرعي , والمطر , وتذكر القيض وبيض النعام , وعودة الظليم إلى عرسه , إذ يوحي إليها بنقنقة وأنقاض كرطانة الروم , وتجيبه بزمار مرنّم بما في هذا الترنيم من الدّلال الأنثوي ” ( [30]), قد صدّرها بأداة التشبيه (كأنها ) التي تدعو ” الذهن بقوة لوضع صورتين إحداهما في مواجهة الأخرى , ومحاولة التوحيد بينهما في نفس الوقت “([31]) ,
إنها صورة الناقة وصورة الظليم , والثانية امتداد للأولى. هذا الظليم في خيال الشاعر ينتمي إلى صورتين, يجمع بين صفتين حيوانيتين : أخذ من الجمل العنق والوظيف والمنسم , وأخذ من الطير المنقار والجناح والريش , واجتمعا في القوة والرفس والضخامة والسرعة ([32])
هذه الصورة تحمل قصة ممتعة طريفة ,حلّق الشاعر بذاته المعذبة في فضاءاتها , بطلها ذلك الظليم , الممتلئ الجسد ذو القوائم الصلبة ,قليلة الريش ,أقام يرعى في مرعى خصيب , يزخر بالنبات الذي يحبه ويستسيغ طعمه, وقد خلا له الجو , وصَفَا له إنه فصل الربيع , فهو يأكل بشراهة ما شاء من حبّ وورق ,وفي حالة اغتباطه وسعادته ومرحه تعتريه موجة اضطراب تعكّر صفوه , وكأن علقمة الفحل يقول لنا : السعادة والفرح لا يدومان لأحد . لكن ماذا حدث؟
حتى تَذَكَّرَ بيضاتٍ وهَيّجَهُ يومُ رذاذٍ عليه الرّيح مغْيُومُ
حتى الغائية الناصبة تبين أنه تذكر بيضات وهيجه يوم رذاذ , إذ بالجو يتغير , فهاجت الريح وكدّر الغيم صفحة السماء , وبدأ المطر يسقط رذاذاً , فأدرك الظليم من خبرته الطويلة بأحوال الصحراء أنّ هذه نُذُرُ عاصفةٍ مُمطرةٍ من تلك العواصف المرعدة المبرقة ذات السيل المدمّر التي تحدث في الصحراء من آن لآن , وهنا يتجلى الصراع النفسي .
لقد خشي الظليم أن تدركه هذه العاصفة وهو بعيد عن بيته الذي يأوي إليه , وتذكر ذكرى أخرى زادته فزعاً وتلهفاً أن يصل بيته بأسرع ما يستطيع , تذكر زوجته العزيزة , وتذكر بيضاته التي تركها في رعاية زوجته , وهنا لم يضيع الظليم وقتاً , بل أسلم للريح ساقيه ,
وانطلق في عَدْوٍ شديدٍ متلاحقٍ لا يبالي بتعبه موسعاً من خطاه وقاذفاً برجليه إلى الأمام محاولاً أن يدرك بيته قبل حلول الظلام , في آخر هذا العدو السريع المجهد نجح الظليم في الوصول إلى بيته قبل أن يتم اختفاء قرص الشمس في غروبها وراء الأفق , وصل إلى بيته الذي فيه أسرته العزيزة وبيضاته النفيسة ,
لكنه لشدة حذره وبرغم تشوقه لا يبادر بالدخول بل يطوف بالبيت مرتين ؛ يتفرس في الأرض المحيطة به ليرى هل بها أثر لدخيل اقتحم بيته في غيابه وكمن فيه ينتظر إيابه من سبع أو صياد بشري ,
ولما اطمأن أن لا خطر يختبئ له في بيته فدخله مشتاقاً متلهفاً وأوى إلى أفراخه الصغار الضعاف وتهالك على بيضاته المركومة وأخذ يناجي زوجته السعيدة بعودته وأخذت تجاوبه مناجاته في انفعال شديد .
وهكذا تنتهي القصة هذه النهاية السعيدة كما بدأت بداية سعيدة , بعد ما تخللها من الخوف والفزع والعدو المضني والحذر والتوجس .
الشاعر علقمة يشبه ناقته في سرعة عدْوها بالظليم الخاضب – ذكر النعام – في سرعة عدْوه , لا تقدر الخيل على طلبه , وتستوقفنا كلمة ( خاضب ) إنها كلمة قوية الشحن والإثارة , وقعت صفة للظليم زمن شهوته , وهي احمرار يعلو قوائمه وأطراف ريشه , أو جلده وساقيه .
والشاعر لم يصف أي ظليم , ” بل اختار ظليماً في موسم الإنتاج , قد اكتسى جلده بألوان زاهية براقة في موسم الإنتاج , ولا سيما اللون الأحمر البهيج الذي كسا الظليم ,فانفعل به انفعالا قوياً ,وأحسّ إحساساً غريزياً حين رأى توهجه بتأجج النشاط الجنسي في هذا الحيوان , وهو ما أثار غرائز الأنثى .
ويبدو أن موسم الإنتاج حدث في أواخر الشتاء وأول الربيع حيث يكون الظليم على أتم قوته وأشد نشاطه وأكبر عنفه وحدته” ([33]) .
وهذا يفسر لنا سبب عدْوه وسرعة عودته إلى زوجته وأفراخه وبيضاته . والشاعر في البيت الثاني يتعجب من هذا الظليم ويتهكم به ؛ من ذوقه في شهوته للنبات المرّ البالغ المرارة , فلو نظرنا إلى الشطر الأول من البيت الثاني وجدنا الشاعر مندهشاً متعجباً من هذا الظليم , فهو لا يأكل من الخطبان مرة واحدة يَسُدُّ بها جوعه , بل يستمر في هذا الأكل متلذذاً به مدة طويلة , بدليل استعمال الشاعر الفعل المضارع في قوله : (يظلّ) ,الذي يفيد الاستمرار وحدوث الفعل نهاراً من الصباح حتى قبيل الغروب.
ويستدعيك التوقف أيضاً عند هذا التنوع في طريقتي تناوله الطعام ,( ينقف الحنظل ) , و(يخذم التنّوم ) .
أما الحنظل فإنه يأكل حبه , ينقف الثمرة بمنقاره القوّي الحاد ,ويستخرج ما في داخلها من حبِّ ليأكله وتأمل الجرس الصوتي للفظة ( نقف ) وكرّره بضع مرات ” يتبين لك تمثيلاً ناطقاً لحركة المنقار القوي الحاد إذ يمتد في سرعة خاطفة إلى الأمام فيضرب الثمرة ليفلقها ويستخرج حبتها من داخلها كما يحكي الصوت الناتج من هذه العملية , وتزداد لهذه الحركة وهذا الصوت تقديراً إذا عرفت أن منقار النعام له ضربة فائقة القوة يستطيع أن يكسر بها أشد الأشياء صلابة ” ([34]) .
وأما التنّوم فإنه يأكل ورقه يخذمه خذماً , وإذا تأملت في هذه الأحرف الثلاثة (خذم / حروف رخوة ) دالة على الليونة , وإذا ما نطقت بها بضع مرات وجدتها تحكي صوتاً مختلفاً ,وتمثل حركة مختلفة .هما الحركة والصوت اللذان يصدران حين يتناول الطائر بمنقاره أو الحيوان بشفتيه عدداً من أوراق الشجر , ثم يدور براسه بحركة مفاجئة يقطع بها هذه المجموعة من الأوراق ويخضمها([35])
ويبدو أن ذكر الشاعر للحنظل الذي يلتهمه هذا الظليم – برغم مرارته الشديدة – يشير إلى مرارة الحياة التي طالما تجرّعها الشاعر , وكأني به قد جرّب أعتى الخطوب ومارس أقصى مصائب النفس وأكثرها إيلاماً ( [36])
والشاعر يسجل حقيقتين للظليم , إحداهما :أن منقاره الطويل الذي يلتصق شدقاه التصاقاً شديداً إذا أطبقهما فلا يظهر منها إلا خط دقيق وهذا أيضاً كان مثار إعجاب الشاعر (فوُه كشقّ العصا لَأْياً تَبَيّنُهُ ) , وثانيتهما : ( أسَكُّ ما يسمع الأصوات مَصْلُومُ ) ,أي: أن أذنيه صغيرتان جداً . والشاعر بهذا التسجيل يثيرنا نحو ظليمه مرّة ثانية , فهو يتعجب ويستغرب ويحتار من هذا المخلوق ,أطائر هو أم حيوان ؟
وكأني به يريد أن يقول : أتعجْبُ من هذا الظليم ؛ليس طائراً يطير, ولو كان له منقار وأذنان وريش صغير . هذا الذي أراه حيواناً ضخماً يقترب في هيئته من الجمل , ولكن كيف يكون حيواناً وله هذا الفم العجيب الدقيق الذي لا تتبينه إلا بعد لأيٍ ,أي طول تأمل .
وليس له ما نعرف للحيوان من فم واسع الفتحة كبير الشدقين ؟ كالجمل أو الحصان , ومع هذا يسمي منقاره فماً وهذا سرُّ تعجبه أنه يقارن بأفواه الحيوان لا بمناقير الطير . وفي الشطر الثاني يتعجب من أذني الظليم الأسّك الذي يبدو وكأنه كانت له أذنان ثم صلمتا ؟ وهذا تفسير قوله : ( أسك ما يسمع الأصوات ) .
ظلّ الظليم يرعى من الخطبان والتنوم , وفي لحظةٍ ما تَذَكَّرَ بيضاته التي خلفه ,( وهَيّجَهُ يومُ رذاذٍ عليه الرّيح مغْيُومُ ) , وهو بخبرته يدرك أن هذا الرذاذ سيصير بعد قليلٍ مطراً غزيراً , وأن هذه الريح التي علته ستصير عاصفة شديدة وأن هذا الغيم سيصير سحاباً ثقيلاً متراكماً , كل هذا جعله يتزيّد في مشيه ويسرع إلى بيضاته لئلا تفسد وتتغير ,وليحميه من البلل الذي يفسده حتى ولو كانت أنثاه تحميه , فإن الخبير بعلم الحيوان يدرك أنهما يتناوبان على رعاية هذا البيض , وأنه في العادة يحضنه في الليل.
ولعل هذا السبب يبين لنا سرّ سرعته الشديدة العدو إلى زوجته وأفراخه . وكأن الشاعر يريد أن يوصل بعض القيم الأسرية ,ومنها : الشعور بالمسؤولية في التناوب على صيانة وحماية ورعاية البيضات
وتشدنا الموسيقا الشجية في هذا البيت , ونلحظ قوة العاطفة هنا مع المضمون , فالظليم قد هاج به الحنين و الاضطراب لمجيء العاصفة وهو بعيد عن زوجته وأفراخه وبيضاته ,
لأجل هذا الانقلاب الكوني يتقطع البيت إلى أربع فقرات موسيقية مختلفة الطول متجاوبة الإيقاع والنغم ” أولاهما :(حتى تذكر بيضاتٍ ) وثانيتهما : (وهيجه يوم رذاذٍ) تختم كلتاهما بألف ممدودة يليها حرفٌ منون . أما الثالثة :)عليه الريح ) والرابعة 🙁 مغيوم) ففي أولهما مدة الياء وفي ثانيتهما مدة الواو , وكلتاهما أثقل من مدة الألف , وفيما بينهما نجد مدة الواو أثقل من مدة الياء “([37]) .
فالشاعر يعتمد في أداء عاطفته على المدّات الأربع ويتدرج في ترتيبها بحيث تزداد شدة ,فازدياد العاصفة في الشدة من ناحية ,وازدياد عاطفة الظليم في الهياج والاضطراب من ناحية أخرى , وازدياد الضربة الحادة للياء في (عليه ) وفي ( ريح) إذ بدأت تهب وأخذت تشتد في الصحراء .
وهنا يصف الشاعر سيره ويصوره , (فلا تَزَيُّدَهُ في مَشْيِهِ نَفِقٌ, ولا الزَّفِيفُ دُوَيْنَ الشّدّ مَسْؤُومُ ), فحين بدأت نذر العاصفة كان الظليم يمشي مشياً عادياً ,
ثم بدأ يزيد من سرعة مشيه شيئاً فشيئاً , وهو في هذه الأثناء يحدث نفسه عن ماذا سيحدث لزوجتي وأفراخي وبيضاتي , فتزداد خطواته المسرعة إلى جري من ضرب آخر ,
ثم أخذ يزيد من سرعته فقد ازدادت قوة اللوعة والفراق والخوف على أسرته , والعاصفة قد بدأت في الاشتداد .
هذا الظليم له فنون في العدو لا تقف عند حد , يخيل إليك أنه بلغ السرعة القصوى , فإذا به يروعك بسرعة أزيد منها لا حدّ لها , فلا ينفق فهو طويل النفس ,
ولكنه أيضاً يخفف من سرعته برهة يهبط إليها هي الزفيف وهذا مراد قوله : فلا , ولا , ولإثبات ما سبق وإقناعنا بسرعة هذا الظليم وتفاوت ما بين السرعتين , يسوق صورة أخري قوية ورائعة يرسم فيها وصفاً آخر , وكأن الشاعر يرافقه ويسرع معه ,وهذا ما يشد إعجابي به وبصورته , يتراءى لنا في هذا التشبيه :
يَكَادُ مَنْسِمُهُ يَخْتَلُّ مُقْلَتَهُ كأنه حاذرٌ للنّخْس مَشْهُومُ
يصوّر هذا الظليم في إسراعه الجاد المستعجل يدفع برجليه إلى الأمام دفعاً شديداً ليزيد من سعة خطوه إلى آخر مدى يستطيعه , وفي نفس الوقت يخفض من عنقه ؛ليخفف من مقاومة الهواء ,ويزيد من قدرته على شقه والمروق فيه , فيبلغ به الحال أن يكاد ظفرُه يصلُ إلى مُقْلَة عينه فيختلَّها ويمزقها , وفي ذلك دلالة على سرعة الظليم وجهده وتلهفه على أسرته , لا يبالي بهذا الخطر مهما كلّف الأمر.
وتسمية ظفر الظليم منسماً ؛ للتأكيد على أن الشاعر لا ينظر لهذا الظليم على أنه طائر , بل جمل ضخم قوي ؛ولذلك اختار منسم البعير تشبيهاً لمنسمه ؛لشدة التقارب بينهما في الشكل والقوة والرفس
ثم يزيد الصورة قوة ووضوحاً ,فيمثل لك سرعة الظليم في عدوه بأن يعطيك صورتين مختلفتين له في وضعين مختلفين ومسافتين مختلفتين , صورة له وهو قريب منك , وصورة له إذ يبتعد عنك بسرعة فائقة .
يقول :
وَضَّاعَةٌ كَعِصِيِّ الشِّرْعِ جُؤْجُؤُهُ كأنه بتناهي الروضِ عُلْجُومُ
في الصورة الأولى تراه قريباً منك مشرفاً عليك بارتفاعه تراه في استبانة ووضوح , ترى عنقه الطويل الذي يشبه عنق العود ,وصدره المقوس العاري من الريش البارز الضلوع كأنه صدرُ العود في تقوّسه وبروز عصيّه . فامتداد الصدر مع العنق هو الذي يقصده الشاعر بتشبيهه .
وأما في الصورة الثانية فأنت تراه بعد برهة وجيزة وقد ابتعد عنك في سرعته الخاطفة وبلغ – تناهي – آخر الروضة التي كان فيها , فبدا للرائي صغيراً كأنه علجوم , أي : ضفدع ([38]) , وهو المناسب والأليق .
نجح الظليم في الوصول إلى أدحيّه – مكان زوجه وموضع بيضاته – , قبل تمام غروب الشمس ,ولا زال قرْنُ الشمس مُرتفعاً ينبئ بغروب الشمس , وتأمل لفظة ( قرن الشمس ) فما أروع دقة التعبير المتناهية , وصل وقبل أن يجنّ عليه ,كله اشتياق إلى أن يدخل أدحيه ليرى عرسه وأفراخه وبيضاته , لكنه كان حذراً وحريصاً تفقد هذا الأدحيّ وطاف به مرتين لعلّ أحداً يختبئ فيه أو بناحية من نواحيه يترصده أو لعل هناك أثراً لسبع مفترس أو صائد باغي , فتك بزوجه والتهم فراخه وبيضاته , أو لعله يباغته فيفتك به , فعليه أن يتأكد قبل أن يدخل الأدْحيّ
ونرى أن الشطر الثاني لهذا البيت مفقود , وأن تكراره ( كأنه للنخس مشهوم ) خطأ واضح إذ لا يستقيم مع صدر البيت لأن العجز المذكور يصف السرعة في حين أن الانسب البطء لأجل التفقد والتأني في البحث.
وفي الشطر الثاني يصور لنا علقمة الفحل اجتماع العِرِسين في هذا الأدْحيّ وتجسيد قمة الاحتفال , ومن ثم قيام الأب / الظليم بتفقيس هذا البيض المركوم , ودخوله في حوار غرامي بينه وبين زوجه التي طال انتظارها وزاد شوقها إليه ,يوحي إليها بأنقاض ونقنقة ,صوتان يستعملهما معها بلغة موسيقية ,
والعجيب أن الشاعر – الوصاف كلَّ دقيقة من دقائق الصورة – كان معهما في هذا الأدحي ,رأى التقاءهما ,وسمع صوتهما, إلا أنه لم يفهم لغتهما , واكتفى بقوله : ( كما تراطنُ في أَفْدَانها الرّومُ ) بجامع العُجْمَة في كلٍّ , ويبدو أنه فهم أنها لغة سعيدة ,راح يقص عليها أحاديث رحلته ومعاناته وأحاسيسه والصراع الذي دار مع نفسه وسرعته وتفقده. وما أجملها من أحاديث …
وإن كنت أرى أن التقاء الظليم وأنثاه ما هو إلا المعادل الموضوعي لذات الشاعر الغائبة التي يتمنى تحقيقها بوصله لحبيبته سلمى . فقد حنّ لهذا الجو الأسري الدافئ المطمئن لحاجات النفس وهواجسها
ولو تأملنا صوت الظليم في مناجاته لأسرته بين ( أنقاض) و ( نقنقة ) وما توحي به من تأثيرات صوتية لوجدنا أن الأنقاض ” فيما يبدو أطول زمناً وأقل تكسراً , والنقنقة أقصر زمناً وأكبر حدة,
فالظليم يلجأ إليها حين يزداد اضطرابه العاطفي فيزداد تصويته سرعة وتكسراً , ثم يهدأ بعض الشيء فيعود إلى الإنقاض , ثم يشتد اضطرابه مرة أخرى فيعود إلى النقنقة وهكذا يستمر حتى تهدأ عاطفته ” ([39]) .
ثم يشبه هذا الحديث الدائر بينهما بحديث الروم في قصورهم (كما تراطنُ في أَفْدَانها الرّومُ) بجامع العجمة في كلٍّ
والشاعر يشبه هذا اللقاء بلقاء الزوجين البشريين , يسوقه في ذلك عاطفة التعجب والتعاطف من هذا النسل المركوم في هذا الأدحي . وتأمل لفظة ( يأوي ) وما فيها من ضمّ وحنان ورحمة ورقة واحتضان وحماية .وتأمل أيضاً لفظة ( خُرق زعرٍ ) ورويت عند المفضل الضبي ( حِسْكِلٍ زُعْرٍ حواصلُهُ) حيث صوّرت انفعالات الحب والحنان والرحمة والشفقة والعطف على ضعف صغاره وعجزهم وقلة حيلتهم وصغر أجسامهم الضعيفة العارية . هذه الفراخ الصغار قد برّكت أي سقطت على أعجازها لأن أرجلها لا تقوى بعد على حملها والنهوض بها.
وهذا التشبيه أولاً حسي يصور لصوقها بالأرض وما يكسو أجسامها العارية من تراب الأرض كما تلتصق الشجرة بجذورها بالأرض , ثم هو معنوي يصور ضعفها وعجزها . ويزيد الصورة روعة وافتناناً وذلك عند يطالعنا التشبيه المركب في قوله :
صَعْلٌ كأنّ جناحيه وجؤجؤه بيتٌ أطافت به خرقاءُ مهجومُ
حيث شبه حالة وهيئة الاضطراب العاطفي الشديد الذي انتاب الظليم حين عاد إلى أسرته وهو اضطراب بلغ منه أنه لا يستطيع هو أن يستقيم على رجليه في وقفته ويحتفظ بتوازنها – يقوم مرة ويسقط مرة أخرى – فسقط بجناحيه وصدره على زوجه وفراخه وبيضه محاولاً أن يضمهم إليه ويحتضنهم بهيئة الخيمة – أطافت به خرقاء لا تحسن صناعة هذا البيت – الخيمة – فهي لا تقيمها من ناحية إلا وتسقط من ناحية أخرى , فتسرع إلى الناحية التي سقطت فزعة خائفة لتقيمها فتسقط الناحية الأخرى , وهكذا . ويختم الشاعر صورته الفنية بقوله :
تَحُفُّهُ هَقْلَةٌ سَطْعَاءُ خاضعةٌ تُجِيبُهُ بزِمارٍ فيه ترنيمُ
وما أروع لفظة ( تحفُّه ) – تلتصق به – المشحونة بالسعادة والرضا والفرح المشوب بالقلق لطول الانتظار , قد وقفت بجوار زوجها العزيز وأطفالها تراقب فرحته بهم وفرحتهم به , ثم تقترب منه وتلفُ من حوله وتتمسح به حباً وحناناً وشوقاً. وهي تمدّ عنقها الساطع الطويل الذي يشبه عمود وسط البيت – وتميله وتثنيه تدللاً لمراقبة زوجها وأطفالها, تغني لهم بصوت أنثوي فيه دلال الأنثى وغزلها , بزمار فيه ترنيم وتطريب وترجيع وتشاركهم الفرحة والسرور . إنها قمة النشوة بالنسبة للشاعر وبالنسبة للظليم . ” إن وصف مناجاة الظليم عرسه تصوير لا يصدر إلا عن عاشق متيم حديث النساء يعرف لغة القلوب ويفهم ومضات العيون ” ([40])
وفي ضوء ما تقدم اتضح أن للأفعال دوراً بارزاً في تصعيد حركة الأحداث , ونجد أن أفعال المضارعة تكاد تطغى على أفعال الماضي لاقتضاء الأسلوب السردي ذلك , ومنها نورد ( يظل – ينقف – يكاد – يختل – يأوي – يوحي – تحفه – تجيبه ..) ومن الماضي نرصد ( استطف , تبينه – تذكر هيجه .. ) فجاءت الأحداث متناسبة ” تثير التحدي وتشغل الانتباه لدى القارئ وكلما توسعت أمداء النص وتعمقت أسراره , ازدادت إمكانية خلوده ونفوقه ” ( [41]) .
اللوحة التصويرية الرابعة : روضة الأعشى
|
ما روضة من رياض الحزن معشبة |
|
خضراء جاد عليها مسبلٌ هطلُ([42])
|
|
يضاحك الشمس منها كوكبٌ شَرِقٌ |
|
مٌؤَزّرٌ بعميم النبتِ مُكْتَهِلُ |
|
يومأً بأطيب منها نشر رائحة |
|
ولا بأحسن منها إذا دنا الأصلُ |
نحن إزاء لوحة تصويرية فنية متكاملة لحديقة جميلة غناء ؛ بدأها الشاعر الأعشى بالحديث عن المشبه به (ما روضة) قد اخضل الزهر المعشب فيها , في ربوة عالية لا تطأها الأقدام , ولا تعبث بها الأيدي ,قد جاد عليها مطر السماء ,فأزهرت ونمت ,وأشرقت عليها الشمس , فبثت بشعاعها الساطعة ألوانًا متلألئة ,فانعكست على جداولها المحفوفة بالنبات وقت الغروب , فساد الهدوءُ الأفقَ ,وتضوع ريح الورد الشذي,
إلا أن هذه الروضة التي في أوج هذا الجمال – من الألوان الزاهية والروائح العطرية الفواحة والجوّ الجميل – ليست بأطيب رائحة ونشراً من رائحة ونشر محبوبته المثالية هريرة / المشبه , ولا بأفضل منها حسناً.
وهذا التوصيف المسهب للروضة أعطى الصورة المثلى للمرأة التي تستهوي خيال الشاعر فإن ” أول خطوة في خلق الصورة أن يقرن الشاعر نفسه إلى الأشياء التي تستهوي حواسه ” ([43]).
والشاعر يبدأ لوحته الفنية برسم صورة الروضة بــــــ( ما النافية) مع اسمها ( روضة) , وقد أخذ الاسم ( روضة ) نصيباً كلامياً أكبر في الصورة من خلال الصفات المتلاحقة. مكانها من رياض (الحزن) وهذا يمنحها خصوصية تميزها عن بقية الرياض , فهي على ربوة مرتفعة ,
ربما كانت على ربوة أو على جبيل غليظ تحصنت فيه وامتنعت فلسمت من الأذى , لا تعبث بها الأيادي , ولا تطؤها أقدام الرعاء , ولا الأنعام ترعاها وتفسدها , ظلت بكراً مصوناً لم تبتذل ولم تهتك عفتها ولم يلوث نقاؤها . وهذا كله ينعكس على محبوبته المثالية , وبهذا تبقى الروضة أشد اخضراراً ونضارة وإيناعاً , قد سقاها ماء السماء المسبل فانبثق من جوف رحمها العشب الأخضر المبهج الدال على الخصب والنماء, وهبت نسمات الرياح عليها فنشرت روائحها الطيبة الزكية([44] )
ولإضفاء جمالية الحسن على هذه الصورة – الروضة – نراه يضيف إلى جمالها صفة أخرى هي (معشبة ),ويتبع الصفة صفة أخرى(خضراء) ؛لئلا يتصوّر المتلقي كون هذا العشب الذي كساها عشباً جافاً يابساً ,
واختيار الصفة (خضراء )؛للدلالة على الخصب والنماء والخير والانشراح في النفس ,ثم يزيد الصورة وضوحاً وبياناً يكشف فيه عن سبب هذا الاخضرار ؛ وهو أنه قد جاد عليها مسبل هطل .
ولمزيد من الإثارة والمتعة نجده يستعين بالاستعارة المكنية ,فيزيد هذه الروضة حياةً وأَلَقاءً وحيوية وحركية (يضاحك الشمس منها كوكب شرق ) ,
وإسناد صفة الضحك , وهي من صفات الإنسان إلى كوكب الماء – أي جداوله – الزاهية الصافية النقية يجعلها إنساناً بهذا التصوير , وبه يغدو كائناً بشرياً مقبلاً على الحياة بفرح غامر .
ومجيء الاستعارة فعلاً ( يضاحك) على وزن (يفاعل ) ممّا يدل على التفاعل والتجاوب بين الجداول والشمس وفي ذلك دلالة على الحركية بينهما. وكأنه بهذه الاستعارة الرائعة عن صفاء الجداول ونقائها يشير إلى نقاء محبوبته وصفاء سريرتها ,وأنّ بقاء الماء في جداوله وسيلانه فيها دلالة رمزية على خصوبة محبوبته هريرة ودوام اخضرار عودها وريعان شبابها وحيوتها.
ولم يكتف برسم ذلك الوجه الجميل المشرق الضاحك للجداول وإنما عمد إلى أن يفصل لها إزاراً من النباتات المكتهلة الناضجة ,
ولا يخفى هنا جمال الاستعارة في قوله : ( مؤزر بعميم النبت ) كما يتزر الإنسان بإزار أخضر زاهٍ وكأنه بهذا يشير إلى دلالة أخرى هي أن محبوبته فتاة تامة النضج بكر مصون , جميلة فاتنة ترتدي أجمل رداء الشباب والحيوية ,
والصورة هنا اكتسبت شعرية إضافية ” من خلال تشخيص عناصرها ومنحها هوية الإنسان ” ([45]).
يقول محمد أبو موسى : ” في البيت الأول ذكر الروضة المعشبة التي في حَزْن وهذا أصح لزرعها وأنقى لمعدنها وطينتها , وذكر أن السحاب يجودها : أي يمنحها الجود وهو المطر , والبيت الثاني من صور البيان الفذّة التي لا يخرجها من ألفاظ اللغة إلا مَنْ له قدرة ,
تأمل كيف جرّد من الروضة كوكباً شرقاً – أي أزهراً , وكيف استخرج من أحشاء النبات ابناً للشمس , يضاحكها , ثم كساه بثياب أمه , فآزره بعميم النبت , لم أعرف كوكباً يخرج من أحشاء روضة وهو معتم بالنبت ويضاحك الشمس إلا في هذه الصورة التي تخلق كائناً ثالثاً , نصفه من الكواكب ونصفه من النبات ( كوكب شرق مؤزر بعميم النبت ) ,
ثم تأمل الملامة بين الصاحبة ومناغاة الشاعر لها وبين مضاحكة الكوكب الشرق المزهو بزينة الأرض للشمس ذات التعالي والكبرياء “([46])
وكل هذه الصفات المذكورة للروضة لا تفضل هريرة المحبوبة في كل خصالها ومفاتنها , والشاعر الأعشى يعكسها هنا على محبوبته هريرة ؛ليبرز تفوّق جمالها, وليميزّها عن غيرها من النساء.
واللوحة مليئة بالرموز الدالة على الحياة التي تبعث على الإحساس بالتجدد والاستمرارية وتبعث على التفاؤل تتراءى في : الأرض الطيبة التي احتضنت ماء المطر وأنجبت الروضة , والروضة التي أثمرت ورداً وزهراً , والشمس التي مدّت كائنات الروضة بالدفء رموز للأمومة والخصوبة , وماء المطر الغزير الدافق رمز للإخصاب والإحياء والنبت والزهر رموز الانبعاث والتجدد والنماء وبهجة الحياة ,وهناك الدلالة المكانية التي تدعو الشاعر ومحبوبته إلى الاستقرار , والدلالة الزمانية الأصيل – وقت الغروب – التي تؤذون بنهاية الأشياء وانعدام الحركة والنشاط, ما يضفي طابع الحزن على الموقف , إلا أن الغلبة كانت للشروق ( الحياة) التي ألبست الأصيل دلالة إيجابية أبعدته عن دلالته السلبية .
ولقد عني العشى بتشكيل هذه اللوحة البديعة , بما وفره لها من لغة جميلة سلسة ورقة في التعبير ورشاقة في الإيقاع ودقة في التصوير , وبما بثه فيها من نعوت لفظية مصورة من مثل : ( معشبة , خضراء , مسبل , هطل شرق , مؤزر , مكتهل ) . ” ومن كانت الروضة المعادل الفني لهريرة .. , وهي – الروضة – في مجملها تصور رؤية الشاعر للحياة وموقفه منها , كما تصور حالته النفسية التي يعيشها تصويراً حياً ” ([47])
اللوحة التصويرية الخامسة : الثور الوحشي للنابغة الذبياني
تطالعنا صورة فنية تنضح بالجدة والطرافة في قوله :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد
من وحش وَجْرة مَوشيٍّ أكارعه طا وي المصير كسيف الصيقل الفرد
وإن كان مسبوقاً إلى اتخاذ الثور الوحشي مشبهاً به للناقة إلا أن ما يميزها عن غيرها روعة الزمان والمكان الواقعين بين ركني كأن , فالزمان وشك انتهاء النهار , ومعنى ذلك أن الناقة واصلت السير منذ الصباح الباكر عبر وقدة الضحى ولهيب الظهيرة , وعلى امتداد المسافة حتى أوشك النهار كله على الانتهاء , ومن الطبعي إذن أن يبلغ بها الجهد مبلغاً كبيراً .
وأما المكان فهو تلك المنطقة المعروفة بصعوبة السير فيها لكثرة الشوك النابت بها , فهل شكل هذا أو ذاك عذراً للناقة في بطء السير , أو الركون إلى الراحة , أو ظهور بادرة الوهن والكلال .
ويوافينا بالطرف الآخر من الصورة فكأنما الرحل ليس على ظهر ناقة موصوفة بالقوة والنشاط والسرعة والصلابة , وإنما على ظهر ثور وحشي موصوف بعدد من الصفات تتلاءم مع طبيعة الصراع بين الإنسان والطبيعة فهو { من وحش وجرة , موشي أكارعه , طاوي المصير , كسيف الصيقل الفرد تسري عليه ريح الشمال , وتتساقط عليه جوامد البرد , يقف في وسط هذه العواصف ليلاً مفزوعاً } ,
هذه الصفات تقودنا إلى حدث درامي مثير حين يقول :
سَرَتْ عليه من الجــوزاء ساريـةٌ تُزجي الشمــالُ عليــها جامدَ البــردِ
فارتاعَ من صوت كَلاّب فباتَ له طوعَ الشوامت من خوف ومن صَردِ
فبثهــنّ عليـــه واستمــــّر بـــــه صُمْعُ الكُعوب بريئــاتٌ من الحَـــــرَدِ
فهاب ضمران منه حيث يوزِعُه طعنَ المعــارك عنـــد المحجر النَّجُــدِ
شكَّ الفريصةَ بالمـِدرى فأنفذهــا شكَّ المبيطــر إذ يَشفــي مــن العَضـــدِ
كـأنه خارجـاً من جَنب صفحته سفـــودُ شَـــربٍ نســـوهُ عنــد مُفتــــأدِ
فظلّ يَعْجُمُ أعلى الرّوق منقبضاً في حــالك اللــــون صدقٍ غيرِ ذي أودِ
لمّا رأى واشق إقعاص صاحبه ولا سبيـــــل إلــى عَقـٍـــل ولا قَــــــوَدِ
قالت له النفس : إني لا أرى طمعاً وإن مولاك لم يسلم ولم يصد ( [48])
نلحظ أن طول الجملة الإخبارية التقريرية واقترانها بالنغمة الهابطة والإيقاع الهادئ أسهم في إشاعة الإحساس بالأمل والخير , وسرعان ما تستفزنا الصورة الدرامية الحركية والإيقاعية عبر الفاء العاطفة راسمة مشاهد متتابعة بالغة الإثارة .
كما عمد الشاعر إلى تصوير ناقته عبر اختيار لفظتي { صمع – بريئات } وصفاً لكعوب الثور ؛ فالتقى الإثبات للصحة , والنفي للعيب أو النقص على تأكيد مقومات القوة والسرعة لديه .
وفي ذكر اسم الكلب { ضمران } دلالة نفسية أفصحت عن دفاع الثور واستماتته , وكان في تكرار الفعل { شك } إيحاء بخفة الحركة وسرعتها , مع دقة مكان الطعن المتناهية , وتحينه للفرصة .
وفي استعارة { المدرى } للقرنين استدعاء لمعنى الحدة والصلابة , كما وفق في اختيار الأداة الرابطة بين الفعل والنتيجة في قوله : { فأنفذها } , ثم الحرص على بيان نوع الضربة عبر المفعول المطلق { شك المبيطر } ,
وكذلك الإيحاء بالدقة والمهارة عبر الجملة الظرفية { إذ يشفي من العضد } . وينسج الصورة مفصلة في البيت التالي فيقول :
كأنه خارجاً من جنب صفحته سفود شرب نسوه عند مفتأد
حيث رأى في طرف القرن الخارج من خاصرة الكلب – مختلطاً بدمائه – سفود شواء خلّفه رفقة من الندامى بعد أن استمتعوا بمجلس الشراب والشواء , فالبعد النفسي هنا واضح إذ لا يخفى أن الإحساس بالانتصار للثور إحساس غمر نفس الشاعر فسعد به , ولا ريب أن الرمز هنا حاضر؛ فكأنني ألمح أن الشاعر يتعرض لمن يتربص به , ويريد أن يوقعه فريسة الملك افتراء وحقداً , وهو يؤمل في أعماقه أن ينال ممّن فعل هذا بضربة نافذة كضربة الثور للكلب ,
ويريد أن يسعد بنتيجة ذلك سعادة الرفاق الذين استمتعوا بمجلس الشراب والطعام حول النار المتأججة لإنضاج ما لذ من الشواء . وترسم الفاء العاطفة الرابطة حالة الكلب البائسة بعد تلك الطعنة فيصورها قائلاً :
فظلّ يعجم أعلى الرّوق منقبضاً في حالك اللون صدق غير ذي أود
وكأن نهاية الكلب متواصلاً في عض القرن الحاد , مستميتاً في إنقاذ نفسه ولكن لا سبيل إلى ذلك حتماً ستكون نهاية خصومه .
ويجلو الشاعر صورة من الحوار النفسي عبر مشهد آخر يشخص فيه حالة كلب آخر يراقب الأحداث على وجل , فلما رأى ما آل إليه أمر ضمران صاحبه , وقد ذهب دمه هدراً , وأنه لا سبيل إلى الدية ولا القصاص والأخذ بالثأر أيقن أن من الحكمة أن ينجو بنفسه ,
ولا يخفى أن أسلوب القصر , وإتباع النفي بالنفي هنا يشير إلى هول المشهد من منظور هذا المراقب إلى الحد الذي دفعه إلى النكوص بعد أن أمعن في سرعة العدو إثر الثور موقناً – مع رفيقه – أنه سوف يدركه , وينال منه , ويمنح كلاّبه صيداً ثميناً , ولكن :
لمّـا رأى واشق إقعـاص صاحبه ولا سبيل إلى عقل ولا قود
قالت له النفس : إني لا أرى طمعاً وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
كان حديثاً واضحاً كشف عنه التوكيد بإني , وضمير الذات , ونفي الرؤية التي تمنح النفس اليقين في الزمن الحالي والآتي , وإفراد المعمول { طمعاً } وتنكيره ليشمل كل مطمع , وتكرار حرف التوكيد ( إن ) لتجسيد الإحساس الداخلي للرائي واشق , واختيار لفظ { مولاك } الصائد على سبيل المغايرة لبيان العلاقة الوثيقة بينهما إذ إنه ليس صاحبه فحسب , وإنما صاحب فضل عليه وسيادة , ثم الإخبار بنفي السلامة أولاً , والصيد ثانياً , وكأنما كان المؤمل هو السلامة فحسب لا الصيد مع أن العكس كان دافع السعي والمتابعة .
وفي تكرار { لم } النافية , واختيار صيغة الفعل المضارع { يسلم – يصد } ما يعين على استحضار المشهد لناظريه المتابع أو المتلقي } .
إننا نعتقد جازمين أن الشاعر ما عمد إلى الحديث عن هذه الناقة إلا بدافع إثبات البصمة الفنية الذاتية في سياق التقاليد الشعرية الراسخة هذا أولاً , وحسن التوسل إلى وجدان المخاطب وهذا ثانياً , وتأكيد تميز مكانته الشعرية التي يعرف أن المخاطب حريص عليها عارف بقدرها وهذا ثالثاً .
ولا شك أن في هذا كله دحضاً للخصوم , وتحقيراً للوشاة , وإفساداً للعلاقة ما بينه وبين النعمان , ومن حق هذه المهمة الصعبة , والغاية السامية أن يحتشد لها بما تستوجبه المهمة من عُدة ومقومات , وعلى رأس تلك العدة الوسيلة والرفيق .
فتلك تبلغني النعمان إن له *** فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد
ولذا عمد إلى الإشارة المعظمة , والمضارع الدال على الثقة في المقدرة الآن وبعد الآن , وذكر اسم { النعمان } جاء للتعظيم والإلماح إلى تفرده ومطلق هيبته , ثم أردف ذلك بالإخبار التقريري المؤكد غير أنه عمد إلى قصر الوصف عليه , حين قدم متعلق الخبر { له } ,
وجاء بالمصدر { فضلاً } منكراً تعميماً ونفياً لكل حد يمكن أن ينتهي إليه ذلك الفضل الذي خص به النعمان , أو معيار يقاس به وانطلاقاً من هذا البيت يحسن الشاعر التوسل إلى مدح النعمان متخذاً من هذا الانتقال مدخلاً لاسترضاء نفسه واستصفائها مما قد لحقها بأثر الوشاية التي تعرض لها النابغة عنده افتراءً وكذباً .
وبهذا الفهم نجد أن الصورة الفنية هي الوسيط الأساسي الذي يستكشف به الشاعر تجربته , فالشاعر الأصيل يتوسل بالصورة الفنية ليعبر بها عن حالات لا يمكن له أن يتفهمها ويجسدها بدون الصورة الفنية . وبهذا الفهم لا تصبح الصورة شيئاً ثانوياً يمكن الاستغناء عنه , وإنما تصبح وسيلة حتمية لإدراك نوع متميز من الحقائق تعجز اللغة العادية عن إدراكه , وتصبح المتعة التي تمنحها الصورة للمبدع قرينة الكشف والتعرف على جوانب خفية من التجربة الإنسانية .
[1] ) الحيوان للجاحظ 3/ 131-132.
[2] ) انظر : ديوان زهير بن أبي سلمى , شرحه علي حسن فاعور, 80, , دار الكتب العلمية , ط1, بيروت , 1988م , : 580, شرح شعر زهير بن أبي سلمى , , لأبي العباس ثعلب , تحقيق : فخر الدين قباوة , 127, مكتبة هارون الرشيد , ط3, 2008م .
[3] ) انظر : ديوان هير, 80, وشرح ديوان زهير 31.
[4] ) بيان وتفسير الكلمات من ( 1- 12) الأجباب: مواضع فيها ركايا , واحدها جبٌّ , وحلأها ورد : يقصد نظرت إلى الماء فوجدت عليه ناساً كثيرين فلم ترده , وضبطت ( حان لها ) .والشبك : حبل الصائد , وإفرادها عن أختها : أراد به سرعتها .والقطا ضربان : الجوني والكُدريُّ واحد فيهما سواد , والقطا الجوني : ما كان أكدر الظهر أسود باطن الجناح مصفر الحلق قصير الرجلين في ذَنَبِه ريشتان أطولُ من سائر الذنب . وحصاة القسم هي الحصاة التي توضع في القدح ويصب عليها الماء حتى يغمرها ليقسم بينهم بالسوية وإنما شبهها بحصاة القسم لأنها مستوية لا يكون فيها حَيْدٌ يُغْبَنُ به صاحبه والسي : ما استوى من الأرض . والفقعاء بقلة , والحسك ثمرالنفل – ضرب من النبات – , يسقط منه حبٌّ فيلتقطه الطير , يريد أن القطاة تعيش في خصب وذلك أشد لها وأسرع في طيرانها . وأهوى لها : أومأ لها , أسفع الخدين : كناية عن الصقر أراد أن يأخذها . والسفع سواد تعلوه حمرة . ومطرق ريش القوادم : أراد أن بعض ريشه على بعض ليس بمنتشر , وهذا دليل على عتاقته. ولم تنصب له الشرك : أي لم يؤخذ ولم يذلل يعني الصقر, وهذا أثبت لريشه. والقوادم : العشر المتقدمات . لا شيء أجودُ منها : أي لا شيء أسرع منها , فهي واثقة بطيرانها , وهي مع ذلك تترّك : أي : تدع بعض طيرانها لا تُخرجُ أقصى ما عندها . وقوله : دون السماء … أي : لم يحلّقا فيغيبا , ولم يصيرا على الأرض , فهما بين هذين , وعند الذنابي : أي : قاربها الصقر فصار عند ذنبها ,فلا فوتٌ ولا دَركُ : أي : لا تفوته القَطاةُ ولا هو يدركها , فهو أشد لطيرانها . والأزملة اختلاط الصوت , وتهتلك : تسرع. والبتك : القطع . فألجأها منه أي حماها الوادي من الصقر , لأن فيه شجراً فلجأت إليه . والأظفار : مخالب الصقر , والحنك : منقاره . لا رشاء له : أي أنه ماء يجرى على سطح الأرض , كناية عن قربه , والبرك : طير بيضٌ صِغارٌ وهو الذي يسمى : الشّيق , والواحدة : بُركة , يريد أن يقول : لم تزل مجتهدة في طيرانها حتى استغاثت بماء أبطح , مكلل بالنجم , وهو النبات الذي يقال له : الثيل , وريح خريق : ريح شمالية شديدة , لضاحي مائه : أي برز وقت الضحى , والحبك : التكسر الذي يعلو الماء عندما تهب عليه . والسَّيْء : اللبن الذي في الضرع قبل نزول الدرة , والفز: ولد البقرة الوحشية , والغيطلة : الشجر الملتف, والحشك : حفل الضرع باللبن – والمراد أن ولد البقرة يرضع من ضرع أمه قبل نزول الدرة مستغيثاً ببقايا اللبن , وإنما خاف العيون لأنه يمنع من ذلك , فزل عنها الصقر واشرف على رأس مكان مرتفع يرقب صيداً , ومنصب العتر : حجارة تذبح عليها العتائر وهي الذبائح التي تذبح في رجب . ودمّى رأسه : أي في رأس الحجر دم الذبائح التي تذبح عليه . ينظر : شرح الديوانين لثعلب والأعلم ولسان العرب
[5] ) شعر زهير بن أبي سلمى , الأعلم الشنتمري , 78, تحقيق : فخر الدين قباوة , منشورات دار الآفاق الجديدة , بيروت , ط3, 1980م.
[6] ) انظر : زهير بن أبي سلمى شاعر الحق والخير والجمال , سعد شلبي 287, مكتبة غريب , مصر
[7] ) انظر : مدخل إلى كتابي عبد القاهر الجرجاني , محمد أبو موسى , 163, ط2, مكتبة وهبة , القاهرة , 1431ه- 2010م .
[8] ) الطير وعالمه الحيواني في الشعر الجاهلي , عبد القادر الرباعي , 108. مجلة مجمع اللغة العربية الأردني, ع3,الأردن , 1986م.
[9] ) المصدر نفسه 163.
[10] ) انظر : المعاني الكبير 3/ 705.
[11] ) مدخل إلى كتابي عبد القاهر 164-165.
[12] ) انظر : زهير شاعر الحق والخير والجمال 290,
[13] ) تفسير مفردات النص :
مضى : أي الحمار , وقدّم الأتان وكانت عادة منه تقدمتها إذا انحرفت عن الطريق , عردت : حادت عن الطريق , توسطا : خاضا المياه , السرى : نهر صغير , صدّعا : شققا الأعشاب التي على الماء , المسجورة : المملؤة . قلامها : نبت حامض . أفتلك : الإشارة إلى الأتان , يقول : أفتلك الأتان تشبه ناقتي أو وحشية , يقصد : البقرة , مسبوعة : أكل السبع ابنها . وخذلت : تأخرت عن القطيع . هادية الصوار : طليعة القطيع من البقر . والمعنى : أنها هادية الصوار وهي قوامها . الخنساء : فيها خنس وهو تأخر الأنف وقصره . الفرير : ولد البقرة . لم يرم : لم يبرح , الشقائق : الأرض الغليظة بين رملتين , بغامها : صوتها الرقيق الناعم , ولم تجاوز في بغائها ابنها عرض الشقائق لأن في تلك الرملة نباتاً , فهي تدور وتصيح ؛ لئلا يكون النبات قد غطاه . لمعفر : من أجل معفر , والمعفر : ابنها الذي قد سحب في التراب . وقهد : أبيض , تنازع : تجاذب , شلوه : عضوه . والغبس : الذئاب أو الكلاب ذات اللون الأغبر , كواسب : تعيش من الصيد , لا يمنّ طعامها : أي : لا أحد يطعمها فيمن عليها , وإنما تعتمد على جهدها ؛ ولا يمن : لا ينقص . أسبل : سال , واكف : المطر , ديمة : مطر دائم , تسجامها : انصباب المطر . وطريقة المتن : من الحارك إلى الكفل . متواتر : مطر متتابع , كفر النجوم : غطّاها . تجتاف : تدخل في جوفه . قالص : مرتفع الفروع . المتنبذ : البعيد الذي انتحى ناحية . العجوب : جمع عجب وهو أصل الذنب ويعنى به أطراف الرمال , الأنقاء : الكثبان الرملية . الهيام : ما تناثر منها. والمعنى : أن هذه البقرة تدخل نفسها في جوف شجرة كبيرة بعيدة عن المسالك نابتة في أطراف كثبان تنهال رمالها في يسر . تضيء : أي البقرة لشدة بياضها . وجه الظلام : أوله . والجمانة اللؤلؤة الصغيرة , البحري : الغواص , وإنما خص جمانة الغواص لأتها قد تعمل من فضة . نظامها : خيطها وإذا سلّ خيطها أي سقط كان أضوأ وأظهر لها . انحسر الظلام : ذهب , أسفرت : دخلت في الصباح , الثرى : التراب المبتل الشبيه بالوحل . أزلامها : قوائمها التي شبهها بالقداح والسهام . علهت : جزعت وقلقت, نهاء : جمع نِهْى وهو مجتمع الماء , صعائد : اسم مكان , تؤام : لأنها يوم وليلة أي : كانت تتردد قلقة هذه المدة كلها في طلب ولدها . أسحق حالق : قل لبن الضرع الذي كان ممتلئاً . لم يبله : أي لم يذهب بكل ما فيه من لبن أنها أرضعت ابنها وفطمته , وإنما ذهب لبنها بعد فقد ولدها . الرز : الصوت الخفي , عن ظهر غيب : من وراء حجاب راعها : أفزعها , الأنيس سقامها : هلاكها ويكون بصيدها . فغدت : من الغدو وقيل : من العدو , والفرجين : الواسع من الأرض , كأنها تحسب أن كلّ فرج أولى بالمخافة من الثاني ؛ لحيرتها . يئس : حتى إذا يئس الرماة من إصابتها بالنبال تركوا رميهم , والغضف : المسترخية الآذان , والدواجن : المعوّدة للصيد , قافلاً أعصامها : قلائدها التي في أعناقها يابسة , وعصام حبل القربة .فلحقن : الكلاب . واعتكرت : رجعت البقرة عليهم وكرّت , مدرية : الحربة وهي هنا قرونها , والسمهرية : الرماح الشديدة , أحمّ حمامها : موتها , تقصدت : قصدت كساب – اسم كلبة , وسخام : اسم كلب , والمعنى : قصدت البقرة كساب فلطختها بالدم , وتُرِك أخوها سخام قتيلاً , ويظهر أنه كان أسود , إذ السخام السواد . فبتلك الناقة , الإشارة إلى الناقة التي تشبه البقرة الوحشية . رقص : ارتفع وانخفض , اللوامع : الأرض التي تلمع حين ظهور السراب على وجهها , اجتاب : ألبس . أردية : أثواب , الإكام : جمع أكمة وهي المرتفعات , أقضي اللبانة : الحاجة , لا أفرط ريبة : أي لا أتقدم على أمر أشك فيه , حتى لا ألوم نفسي أو يلومني الناس .
انظر : شرح ديوان لبيد بن ربيعة , تحقيق : إحسان عباس , الكويت , 1962, ص 307-313.
[14] ) انظر : المعاني الكبير لابن قتيبة 3/ 709.
[15] ) قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث , محمد زكي العشماوي , دار النهضة العربية , بيروت , 1979م .
[16] ) انظر : لبيد بن ربيعة العامري , يحيي الجبوري 230, ومعلقات العرب , بدوي طبانه , 255, دار المريخ , الرياض 1404ه -1984م,
[17] ) انظر : المعلقات العشر دراسة في التشكيل والتأويل , صلاح رزق 2/ 65, ط1, دار غريب , القاهرة , 2009م .
[18] ) انظر : المعاني الكبير 3/ 710. و دراسات في الشعر الجاهلي , يوسف خليف , 100-102. دار غريب , القاهرة .
[19] ) انظر : قضايا في النقد الأدبي 172.
[20] ) انظر : المعلقات السبع دراسة للأساليب والصور والأغراض , صديق حسن بشير , 30, 67, الدار السودانية للكتب , 1998م .
[21] ) انظر : معلقات العرب 325.
[22] ) انظر : لبيد بن ربيعة العامري , للجبوري 231. دار القلم , الكويت ط3/ 1983م .
[23] ) رويت في الديوان بالوجهين .
[24] ) التشكيل الجمالي للوحة البقرة الوحشية في معلقة لبيد , مجدي الخطيب , ص 76, مجلة كلية الآداب , جامعة سوهاج , ع40, 2016م.
[25] ) انظر : المعلقات العشر دراسة في التشكيل والتأويل 71.
[26] ) شعر لبيد بين جاهليته وإسلامه , زكريا صيام , 47, ط2, مطابع دار الشعب , 1976م . وانظر : معلقات العرب 325.
[27] ) انظر : معلقات العرب : 232-233. وشرح المعلقات العشر , مفيد قميحة , 216, دار الهلال , بيروت , 1997م .
[28] ) تفسير مفردات النص : الخاضب : الظليم – ذكر النعام – الذي أكل الربيع واحمرت قوائمه وأطراف ريشه , أو الذي يخضب في الشتاء وهو أن يحمر جلده وساقاه ويظهر عليه جلد أحمر ويكثر لحمه ويشتد عصبه ويكثر ويطول ريشه , ولا تطلب الخيل الظليم إذا خضب في الشتاء . زعر قوائمه : قليلة الريش , أجنى : أدرك , اللوى: اسم موضع , الشرى : شجر الحنظل , التنوّم : نبات القنّب . وقيل : الظليم إذا اغتلم احمرّت عنقه وصدره وفخذاه , الجلدُ لا الريشُ حمرة شديدة , ولا يعرض ذلك للأنثى , ولا يقال ذلك إلا للظليم دون النعامة . وهو الذي نختاره انظر : لسان العرب : 1/ 358-359.
الخطبان : الذي فيه خطوط صفراء وحمراء وهو أشد ما يكون مرارة , ينقفه : يكسره ويستخرج ما في جوفه من حب ليأكله . استطف : أشرف وبدا , التنوم : نبات القنب , مخذوم : مقطوع , والمعنى : أن الظليم أقام في هذا المكان الخصب يأكل حب حنظله ويقطع أغصانه ويرعاها . فوه كشق العصا: أي ما تكاد تستبين ما بين منقاريه لشدة التصاقهما . لأياً : أي بطيئاً لا تتبينه إلا بعد مشقة . أسك : صغير الأذنين لا يكاد يسمع , مصلوم : مقطوع الأذن , التزيد : فوق المشي – سير مسرع للإبل والدواب , والنفق : الذاهب , الزفيف : سير دون العدو الشديد , والشد : العدو , والمسؤوم : المملول . منسم الظليم : يريد ظفره , استعار خف البعير له, المقلة : شحمة العين بياضها وسوادها , النخس : غرز جنب الدابة , يعني أن هذا الظليم يخفض عنقه ويمدها ويزج برجليه زجاً شديداً فيكاد ظفره يشق مقلته ويطيرها . والمشهوم : الفزع , كأن هذا الظليم يحذر أن يُنْخس , فهو يجد في العدو ويستخرج أقصى جهده . وضاعة : مسرع , ضرب من العدو ,والهاء للمبالغة , فهي صيغة مبالغة مثل : علامة ونسابة . كعصي الشرع : أوتار العود , الجؤجؤ : الصدر , يريد أن صدره وعنقه كالعود في التقوس, تناهى : جمع تنهية بفتح التاء , وهي الأماكن المطمئنة حيث ينتهي الماء ويستقر , الروض : جمع روضة ولا تكون روضة إلا وفيها ماء وشجر , العلجوم : الليل , شبه سواد الظليم بسواد الليل أو أن يكون العلجوم هنا الجمل الضخم الطويل المطلي بالقطران ويكون المقصود تشبيه الظليم به في عظم خلقه . والذي نراه أن العلجوم : الضفدع , وصغار البط ( لسان العرب :12/ 422. تلافى : تدارك , قرن الشمس : جانب من جوانبها , الأدحيّ : مبيض النعام سمّي كذلك لأنها تدحوه بأرجلها ليتسع لها ويلين , والعرسين : الظليم والنعامة , هو عرس لها وهي عرس له . مركوم : ركب بعضه بعضاً لكثرته . طاف طوفين : دار دورتين . يقفره : ينظر إليه هل يرى أثراً سبق صاحبه إلى البيض . يقفره : يتبع أثره .
يأوي : يصير , والأنسب يرحم ويرق , الخرق : الفراخ الصغيرة اللاحقة بالأرض صغار لا تطيق النهوض لضعفها , زعر قوادمها : لا ريش عليها , الجرثومة : أصل الشجرة , شبه الأفراخ الباركة بالجراثيم المجترمة … يوحي إليها : أي يوحي الظليم إلى النعامة بصوت تفهمه عنه . والأنقاض والنقنقة : صوته , ويقال لصوت الظليم القرار ولصوت النعامة الزمار. التراطن : كل كلام تسمعه ولا تفهم معناه , وإنما أراد أن الظليم يكلّم النعامة بما لا يفهمه غيرها . الأفدان جمع فدن وهو القصر . الصعل : يقال : ظليم صعل , أي رقيق العنق صغير الرأس , الجؤجؤ : الصدر . وبيت : أي بيت من الشعر , وبيوت العرب أربعة : بيت من شعر , وخباء من وبر , وخيمة من شجر , وأقنة من حجر , الخرقاء / المرأة التي لا تحسن العمل . المهجوم : الساقط المهدوم , شبه الظليم في نشره جناحيه وصدره ببيت من شعر أطافت به خرقاً لتصلحه فلم تحسن إقامته وعمله فاسترخت عيدانه وأطنابه وكلما رفعت جانباً سقط آخر . تحفه : تغشى الظليم وتحيط به , هقلة : نعامة , والذكر هقل , والسطعاء : الطويلة العنق , كأن عنقها سطاع وهو عمود وسط البيت , خاضعة : مميلة رأسها قيل : للرعي , والأنسب : المشاركة العاطفية , الزمار : صوت الأنثى , الترنيم : التطريب في الصوت والترجيع
[29] ) شرح ديوان علقمة الفحل , الأعلم الشنتمري , وضع هوامشه وفهارسه : حنّا نصر 65, دار الكتاب العربي , ط1, بيروت 1414ه- 1993م . ( انقل 42, من الديوان
[30] ) الصورة الفنية أسطورياً – دراسة في نقد وتحليل الشعر الجاهلي , عماد الخطيب, 233, دار جهينة للنشر , عمّان , 2006م .
[31] ) بناء الجملة العربية , عبد اللطيف حماسة , 321. دار غريب للطباعة , القاهرة , 2003م .
[32] ) انظر : عجائب المخلوقات , لجلال الدين محمد القزويني , 2/256, منشورات دار أفاق الجديدة , بيروت , 1981م ,
[33] ) الحيوان 4/ 70. وانظر : الشعر الجاهلي لمحمد النويهي 1/ 350.
[34] ) الشعر الجاهلي 1/ 353
[35] ) انظر : الخصائص لابن جني ( خضم وقضم وخذم )
[36] ) صور الشعراء الفنية قبل الإسلام من منظور المنهج النفسي , أوراس نصيف , رسالة ماجستير في اللغة العربية وآدابها , جامعة بغداد , ص : 97, 2004م .
[37] ) الشعر الجاهلي للنويهي 1/ 358.
[38] ) انظر : لسان العرب 12/ 422
[39] ) الشعر الجاهلي 373.
[40] ) الوصف في الشعر العربي , عبد العظيم قناوي , الجزء الأول : الوصف في الشعر الجاهلي , 1/ 173, مطبعة البابي الحلبي , مصر , 1949م .
[41] ) الخطيئة والتفكير , للغذامي , دار سعاد الصباح , الكويت , ط3, 1990م , ص 296.
[42] ) بيان معاني المفردات ) الحزن : المرتفع من الأرض , ومسبل : مطر مسبل أي نازل , كوكب الماء : بريقه , شرق : زاه , مؤزر : لابس إزاراً , وكأن النبات حلة تكسوه , مكتهل : بلغ وتمّ , النشر : تضوع الرائحة وانتشارها . الأصل : وقت الغروب .
[43] ) الصورة الشعرية , سي :دي . لويس:76. ترجمة : أحمد نصيف وآخرون , مؤسسة الخليج للطباعة والنشر , د.ط , الكويت , 1982م .
[44] ) انظر : دراسات في الشعر الجاهلي , يوسف خليف , 151.
[45] ) الصورة في شعر جعفر لطفي أمان وعبد الكريم أسعد قحطان :94. دار الثقافة العربية , ط1, الشارقة , 2002م.
[46] ) دراسة في البلاغة والشعر , محمد أبو موسى 323, ط1, مكتبة وهبة 1411ه- 1991م.
[47] ) الروضة الغزلية في قصائد قديمة , عبد الكريم يعقوب , : 22, مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية , مج27, ع1, 2005م
[48] ) تفسير مفردات النص : تزجي : تسوق . والشوامت : القوائم , والصر : البرد أي : أن الثور لما سمع صوت الكلاب بات قائماً من خوفه منها ومن البرد . وبثهن : أطلق الصائد كلابه على الثور , وصمع : ضوامر , والحرد : الاسترخاء , وضمران : اسم كلب الصائد , . وعند المحجر : عند الدفاع , والفريصة : لحم في الكتف . والمدري : القرن . والمبيطر : الطبيب أي : أن الثور شك الكلب في كتفه بقرنه طعنة كطعنة الطبيب الذي يعالج الدابة , ثم شبه القرن الخارج من الكتف بالسفود. والشرب : الجماعة الذين يشربون . والمفتأد : موضع النار






