أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري ولد ببغداد وقيل بالكوفة سنة 213هـ , وتوفي سنة 276هـ كان إماما بارعا في التفسير وغريب القرآن ومعانيه والحديث والفقه واللغة والنحو والأدب , كثير التصنيف صدوقاً من أهل السنة , صاحب المصنفات العزيزة كعيون الأخبار وتأويل مشكل القرآن وتأويل مختلف الحديث , وغريب الحديث والشعر والشعراء والمعاني الكبير وأدب الكاتب وغيرها من المصنفات النفيسة .
تحدث ابن قتيبة عن أسس عامة وموضوعات نقدية هامة , منها : قضية القدم والحداثة وقضية اللفظ والمعنى وقضية الطبع والتكلف وقضية السرقات , ووضع مقاييس محددة يختار على أساسها الشعر .
تكلم ابن قتيبة في الشعر جيده ورديئه وصحيحه وسقيمه وأقسامه وطبقاته وترجم لعدد من الشعراء وروى أخبارهم واختار نماذج من شعرهم فكان صوته من الأصوات الأولى التي لفتت الناس إلى هذا الفن .
أما منهجه النقدي فيفصح عنه بقوله : (( مذهبنا فيما نختاره من كلام المتأخرين وأشعار المحدثين إذا كان متخير اللفظ لطيف المعنى لم يزر به عندنا تأخر قائله كما أنه إذا كان بخلاف ذلك لم يرفعه تقدمه )) مقدمة عيون الأخبار ص ” ح ط ي
إن مقياسه النقدي مختلف عن مقياس النحاة واللغويين الذي كان بدافع التعصب للقديم مطلقاً الذين يتخذون من المقياس الزمني أساساً لقبول الشعر أو رفضه ووصفهم بالمقلدين , ولذلك نجده يدعو إلى عدم التفريق بين القديم والمحدث , وعنده كل قديم كان حديثاً في زمنه , يقول : (( ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه , وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره . بل نظرت بعين العدل على الفريقين وأعطيت كلا حظه , ووفرت عليه حقه )) الشعر والشعراء 1/ 64.
ويقدم لنا تعليلاً مقنعاً لهجومه على هؤلاء المقلدين فيقول : (( فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله ويضعه في متخيره , ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله )) الشعر والشعراء 1/ 64
ومن هنا يكشف لنا عن زيف المقياس الزمني الذي كان يعتمد عليه هؤلاء النقاد , وأدى تمسكهم بهذا المقياس إلى قبول الشعر الرديء الذي تقدم قائله زمنياً ورفض الشعر الجيد لأنه ورد عن شاعر محدث .
على أن الجودة الفنية في رأيه ليست مقصورة على زمن دون زمن , ولا مختصة بعصر دون غيره , ففي كل عصر الجيد والرديء , يقول ابن قتيبة : (( ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص به قوماً دون قوم بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر )) الشعر والشعراء 1/ 64
ثم ينظر إلى هذه القضية من زاوية أخرى وهي أن القدم والحداثة مسألة نسبية تختلف من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل فكل قديم كان في عصره حديثاً , ثم أصبح في العصر الذي يليه قديماً , وكل حديث سيصير يوماً ما قديماً (( فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين . وكان أبو عمرو بن العلاء يقول : لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته ثم صار هؤلاء قدماء عندنا ببعد العهد منهم , وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا كالخريمي والعتابي والحسن بن هانئ وأشباههم )) الشعر والشعراء 1/ 64 .
وعلى هذا يرفض المقياس الزمني ويضع بدلاً منه مقياساً آخر يقوم على النظر في الأثر الشعري نظرة فنية موضوعية غير مرتبطة باسم الشاعر أو زمن الشعر . وأساس ذلك كله الجودة الفنية فالشعر الذي تتحقق فيه الجودة الفنية يقبل , والذي لا تتوافر فيه هذه الصفة يرفض (( فكل من أتى بحسن من قول أو فعل ذكرناه له وأثنينا به عليه ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله ولا حداثة سنه . كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه )) الشعر والشعراء 1/ 64
*= ولكن ما هي الجودة الفنية التي يقصدها ابن قتيبة ؟ يبدو أن يقصد بذلك عذوبة اللفظ وطرافة المعنى ويتصل بذلك صحة الوزن وحسن الروي ونبل المعنى ونبل قائله وحسن التصوير . يقول : (( وليس كل الشعر يختار ويحفظ على جودة اللفظ والمعنى ولكنه قد يختار على جهات وأسباب منها الإصابة في التشبيه ومنه ما يختار ويحفظ لأن صاحبه لم يقل غيره وقد يختار ويحفظ لأنه غريب في معناه وقد يحفظ ويختار أيضاً لنبل قائله )) الشعر والشعراء 1/ 85. ونراه يستشهد ببعض الأبيات على كل نوع مما ذكر , فيستشهد على غربة المعنى بقول أحدهم في الفتى : ليس الفتى بفتى يستضاء به *** ولا يكون له في الأرض آثار
ويستشهد على الاختيار لنبل القائل بأقوال لبعض الخلفاء والوزراء كالرشيد والمأمون والمهدي لأن شعرهم على حد تعبيره شريف بنفسه وصاحبه كقول الرشيد :
النفس تطمع والأسباب عاجزة *** والنفس تهلك بين اليأس والطمع
وكان يحكم على شعر الشعراء بالجودة أو الرداءة وبعد أن يترجم للشاعر يذكر شيئاً من جيد شعره كما فعل عند عرضه شعر أبي العتاهية , قال : (( ومما يستحسن من شعر أبي العتاهية قوله : وعظتك أجداث صُمت *** ونعتك أزمنة خُفُت )) الشعر والشعراء 2/ 782
وكما يحكم للشعر بالجودة يحكم عليه بالرداءة والسخف وأحياناً يطلق الأحكام من دون تعليل , وأحياناً يعلل أسباب الجودة والرداءة فعندما ذكر أبا نواس قال : (( ومما يستخف من شعر أبي نواس : الشعر والشعراء 2/ 791
قل لزهير إذا حدا أو شدا *** أقلل وأكثر فأنت مهذار
سخنت من شدة البرودة حتى *** صيّرت عندي كأنك النار .
فلابد إذن للشاعر من أن يستبد بنفس المتلقي أي : يملك عليه نفسه وحسه . وهذا ما فطن إليه ابن قتيبة في قوله : (( ولله در القائل : أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه )) الشعر والشعراء 1/ 82. فقد انتبه إلى أمر هام من تقييم الشعر وأن بعض الأشعار لروعتها تستبد بنفس المتلقي استبداداً تاماً لا يشغل معه عن أي شغل آخر .
ونراه يرى خلاف ما رآه غيره من العلماء الذين قيموا الشعر بالنظر إلى قائله والزمن الذي قيل فيه , إذ قال : (( فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله ويضعه في متخيره ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه , أو أنه رأى قائله ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن ولا خص به قوماً دون قوم بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر وجعل كل قديم حديثاً في عصره … فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين . وكان أبو عمرو بن العلاء يقول : لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته ثم صار هؤلاء قدماء عندنا ببعد العهد منهم , وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا كالخريمي والعتابي والحسن بن هانئ )) الشعر والشعراء 1/ 64
أهم القضايا النقدية :
*= اللفظ والمعنى : اللفظ عند ابن قتيبة يقصد به النظم والتأليف , فحسن اللفظ الذي أشار إليه في أضرب الشعر إنما قصد بذلك جودة السبك وكثرة الماء والرونق وحسن المخارج والمطالع والمقاطع والبعد عن التعقيد والتكلف مع صحة الوزن وحسن الروي واللفظ المتخير وخلوه من عيوب الشعر .
أما مفهوم المعنى فقصد به الفكرة التي يحويها البيت أو الأبيات , وتتحدث عن تجربة أو أمر واقع في الحياة وقد أوضح مفهومه هذا عن اللفظ والمعنى في تعليقه على بيتين للمرقش عدهما الأصمعي من مختاراته وهما :
هل بالديار أن تجيب صمم *** لو أن حيّاً ناطقاً كلّم
يأبى الشباب الأقورين ولا *** تغبط أخاك أن يقال حكم
يقول ابن قتيبة في الشعر والشعراء 1/ 73 : (( والعجب عندي من الأصمعي إذ أدخله في متخيره وهو شعر ليس بصحيح الوزن ولا حسن الروي ولا متخير اللفظ ولا لطيف المعني ولا أعلم فيه شيئاً يستحسن إلا قوله :
النشر مسك والوجوه دنا *** نير وأطراف الأكف عنم
ويستجاد منه قوله :
ليس على طول الحياة ندم ومن *** وراء المرء ما يعلموا العجيب عندي .
*= الطبع والتكلف :
الطبع السجية التي جبل عليها الإنسان والشاعر المطبوع هو الذي ينظم على السليقة مع قدرته على الارتجال وسرعة الخاطر . والتكلف العمل والمعاناة والتنقيح والتثقيف , ولم يخلط ابن قتيبة بين التكلف والصنعة , فالتكلف عنده معناه الصنعة المحمودة , وأما التكلف المذموم فهو الذي يأتي به صاحبه قسراً وهو ما نزل بصاحبه من طول التفكر وشدة العناء ورشح الجبين وكثرة الضرورات وحذف ما بالمعاني حاجة إليه وزيادة ما بالمعاني غنى عنه .
وقد قسم الشعراء إلى متكلفين ومطبوعين يقول : (( ومن الشعراء المتكلف والمطبوع , فالمتكلف هو الذي قوّم شعره بالثقاف ونقحه بطول التفتيش وأعاد فيه النظر بعد النظر كزهير والحطيئة , وكان الأصمعي يقول : زهير والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين و وكان الحطيئة يقول : خير الشعر الحولي المنقح المحكك , وكان زهير يسمي كبر قصائده الحوليات )) الشعر والشعراء 1/ 78
وعلينا أن نفرق بين الشاعر المتكلف بكسر اللام بمعنى الصانع المجود للشعر , وبين الشعر المتكلف – بفتح اللام فالشاعر المتكلف بكسر اللام هو الصانع أي : المنقح لشعره المجود له .
ولم يتطرق لأمارات وعلامات الشعر المطبوع لأن ميادين الطبع كثيرة ومتنوعة لكنه أورد بعض السمات العامة للشعر المطبوع .
أما علامات الشعر المتكلف فنص على أن المتكلف من الشعر وإن كان جيدا محكما فليس به خفاء على ذوي العلم ورشح الجبين وكثرة الضرورات وحذف ما بالمعاني حاجة إليه وزيادة ما بالمعاني غنى عنه . الشعر والشعراء 1/ 89 أي : هو الشعر رديء الصنعة المخل بأبسط مقتضيات البلاغة .
ويصف لنا ابن قتيبة الشعر المتكلف بقوله : (( … وتتبين التكلف في الشعر أيضاً بأن ترى البيت فيه مقروناً بغير جاره , ومضموماً إلى غير لفقه , ولذلك قال عمرو بن لجأ لبعض الشعراء أنا أشعر منك قال وبم ذاك ؟ فقال : أنا أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه . وقال عبد الله بن سالم لرؤبة : مت يا أبا الجحاف إذا شئت فقال رؤبة , وكيف ذلك ؟ قالت : رأيت ابنك عقبة ينشدني شعراً أعجبني . قال رؤبة : نعم ولكن ليس له قران )) يريد أنه لا يقارن البيت بشبهه الشعر 1/ 90
وقال عن المطبوع : (( والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي وأراك في صدر بيته عجزه وفي فاتحته قافيته وتبينت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة وإذا امتحن لم يتلعثم ولم يتزحر )) الشعر والشعراء 1/ 91, وعنده أن الشعراء المطبوعين ليسوا سواء في الطبع وإنما هم مختلفون فيه , يقول : (( والشعراء أيضاً في الطبع مختلفون : منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء , ومنهم من يتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل , وقيل للعجاج : إنك لا تحسن الهجاء ؟ فقال : إن لنا أحلاماً تمنعنا من أن نظلم , وأحساباً تمنعنا من أن نُظلم , وهل رأيت بانياً لا يحسن أن يهدم )) 1/ 94- 95.
ويرد على قول العجاج بقوله : (( وليس هذا كما ذكر العجاج ولا المثل الذي ضربه للهجاء والمديح بشكل ؛ لأن المديح بناء والهجاء بناء وليس كل بان يضرب بانياً بغيره .
ونحن نجد هذا بعينه في أشعارهم كثيراً , فهذا ذو الرمة أحسن الناس تشبيهاً وأجودهم تشبيباً وأوصفهم لرمل وهاجرة وفلاة وماء وقراد وحية فإذا صار إلى المديح والهجاء خانه الطبع وذاك أخره عن الفحول فقالوا في شعرة أبعار غزلان ونقط عروس وكان الفرزدق زير نساء وصاحب غزل وكان مع ذلك لا يجيد التشبيب , وكان جرير عفيفاً عزافا عن النساء وهو مع ذلك أحسن الناس تشبيباً , وكان الفرزدق يقول : ما أحوجه مع عفته إلى صلابة شعري , وما أحوجني إلى رقة شعره لما ترون )) الشعر والشعراء 1/ 95
وكان يحكم على الشعراء ممن امتاز منهم بالطبع فيقول : (( بشار أحد المطبوعين الذين كانوا لا يتكلفون الشعر , ولا يتعبون فيه , وهو من أشعر المحدثين )) الشعر والشعراء 2/ 745
ويقول عن أبي العتاهية : (( كان أحد المطبوعين وممن يكاد يكون كلامه كله شعرا وكان لسرعته وسهولة الشعر عليه ربما قال شعراً موزوناً يخرج به عن أعاريض الشعر وأوزان العرب )) الشعر والشعراء 2/ 779. ويصف أبا نواس فيقول : (( وهو أحد المطبوعين )) الشعر والشعراء 2/ 786.
*= دواعي الشعر :
تطرق ابن قتيبة إلى الدواعي والبواعث التي تحث الشاعر على قول الشعر ومتى يطاوعه الشعر وعلاقة ذلك بالبيئة والزمان وتغير الأحوال . يقول : (( وللشعر تارات يبعد فيها قريبه , ويستصعب فيه ريّضه )) الشعر والشعراء 1/ 81. واستشهد لذلك بقول الفرزدق – وهو من الفحول – : أنا أشعر تميم , وربما أتت عليّ ساعة ونزعُ ضرس أسهل عليّ من قول بيت .
وعن عامل الزمن وأثره في شاعرية الشاعر والأوقات التي يكون فيها الشعر أطوع لقائله يقول : (( وللشعر أوقات يسرع فيها آتيه ويسمح فيها أبيّه منها : أول الليل قبل تغشي الكرى , ومنها صدر النهار قبل الغداء , ومنها يوم شرب الدواء , ومنها الخلوة في الحبس والمسير , ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل الكتاب )) الشعر والشعراء 1/ 81 – 82.
والحق أن هذه الآراء قد سبقه إليها أبو تمام في وصيته للبحتري قال له : (( يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم , واعلم أن العادة في الأوقات ان يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر , وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق .
وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وشرف مقاومه وتقاص المعاني واحذر المجهول منها . وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام .
وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك , ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب , واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين . وجملة الحال أن تعتبر شعرك مما سلف من شعر الماضين فما استحسنه العلماء فاقصده وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله تعالى )) العمدة 2/ 750
ومن جانب نفسي يقول : (( وللشعر دواع تحث البطيء وتبعث المتكلف منها الطمع ومنها الشوق ومنها الشراب ومنها الطرب ومنها الغضب )) الشعر والشعراء 1/ 79.
وقد ضرب لنا مثالاً طريفاً على دافع الطمع , يقول : (( قيل للحطيئة أي الناس أشعر ؟ فأخرج لساناً دقيقاً كأنه لسان حية فقال : هذا إذا طمع . الشعر والشعراء 1/ 79.
وقال عبد الملك بن مروان لأرطأة بن سُهيّة : هل تقول الآن شعراً ؟ فقال : كيف أقول وأنا ما أشرب ولا أطرب ولا أغضب , وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه . الشعر والشعراء 1/ 80
وقيل كثير يا أبا صخر كيف تصنع إذا عسر عليك قول الشعر ؟ قال : أطوف في الرّباع المخلية والرياض المعشبة فيسهل عليّ أرصنه ويسرع إليّ أحسنه . الشعر والشعراء 1/ 80
وقد اهتم ابن قتيبة ببناء القصيدة ونهجها فقسمها ثلاثة أجزاء رئيسة وهي : المطلع وفيه ذكر الديار والآثار والدمن , ثم وصف الراحلة والرحلة التي قطعها الشاعر , ثم الموضوع الأساس يقول : (( سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها … ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه لأن التشبيب قريب من النفوس لائط بالقلوب … فإذا علم أنه استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره وشكا النصب والسهر وسُري الليل وحرّ الهجير وإنضاء الراحلة والبعير .
فإذا علم أنه أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه للسماح …)) الشعر والشعراء 1/ 75-76 .
ويدعو ابن قتيبة الشعراء إلى التناسب في بنية القصيدة فالشاعر المجيد يعدل بين أقسام القصيدة ولا يغلب قسماً على قسم فيمل السامعون فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدّل بين هذه الأقسام فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر , ولم يُطل فيُملّ السامعين , ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد )) (( فقد كان بعض الرجاز أتى نصر بن سيار فمدحه بقصيدة تشبيبها مائة بيت ومديحها عشرة أبيات فقال نصر : والله ما بقيت كلمة عذبة ولا معنى لطيفاً إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك فإن أردت مديحي فاقتصد في التشبيب )) 1/ 76
وقيل لعلقمة بن علفة : ما لك لا تطيل الهجاء ؟ فقال : يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق . وقيل لأبي المهوش الأسدي : لم لا تطيل الهجاء ؟ فقال : لم أجد المثل السائر إلا بيتاً واحداً . الشعر والشعراء 1/ 77.
وبالرغم فإن ابن قتيبة الذي دافع عن الشعر المحدث لم يكن يقبل أي تجديد يمس الأصول العامة لبناء القصيدة الفني يقول : (( وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام فيقف على منزل عامر أو يبكي عند مشيد البنيان لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير , أو يرد على المياه العذب الجواري لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي , أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآسن والورد لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرارة )) الشعر والشعراء 1/ 77
*= أقسام الشعر :
ومن القضايا التي تناولها في مقدمة كتابه الشعر والشعراء تقويم الشعر فنياً من حيث اللفظ والمعنى , وقد اتكأ في هذا التقويم على تقسيم الشعر قسمة عقلية منطقية إلى أربعة أضرب , لكل ضرب من هذه الأضرب صفة خاصة به يحكم له أو عليه . يقول : (( تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب )) الشعر والشعراء 1/ 65 وهذه الأضرب هي :
الأول : ضرب منه حسن لفظه و جاد معناه كقول القائل في بعض بني أمية :
في كفه خيزران ريحه عبق *** من كفّ أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من *** مهابته فما يكلّم إلا حين يبتسم
لم يقل في الهيبة شيء أحسن منه . وكقول أوس بن حجر :
أيتها النفس أجملي جزعا *** إن الذين تحذرين قد وقعا
لم يبتدئ أحد مرثيته بأحسن من هذا . وكقول النابغة الذبياني :
كليني لهم يا أميمة ناصب *** وليل أقاسيه بطيء الكواكب
لم يبتدئ أحد من المتقدمين بأحسن منه ولا أغرب .
وقول أبي ذؤيب الهذلي :
والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا ترد إلى قليل تقنع
قال الأصمعي : هذا أبدع بيت قالته العرب . وقول حميد بن ثور :
أرى بصري قد رابني بعد صحة *** وحسبك داء أن تصح وتسلما
لم يقل في الكبر شيء أحسن منه . الشعر والشعراء 1/ 66
الثاني : ضرب منه حسن لفظه وحلا فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة المعنى كقول القائل :
ولما قضينا من منّى كل حاجة *** مسّح بالأركان من هو ماسح
وشُدّت على حُدب المهارى رحالنا *** لا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا *** وسالت بأعناق المطي الأباطح
هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته : ولما قطعنا أيام منّى واستلمنا الأركان وعالينا إبلنا الأنضاء ومضى الناس لا ينظر الغادي الرائح ابتدأنا في الحديث وسارت المطي في الأبطح . وهذا الصنف في الشعر كثير
ونحوه قول جرير :
يا أخت ناجية السلام عليكم *** قبل الرحيل وقبل لوم العذل
لو كنت أعلم ان آخر عهدكم *** يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
الثالث : وضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه كقول لبيد بن ربيعة :
ما عاتب المرء الكريم كنفسه *** والمرء يصلحه الجليس الصالح
هذا وإن كان جيّد المعنى والسبك فإنه قليل الماء والرونق .
وكقول النابغة الذبياني :
خطاطيف حُجن في حبال متينة *** تمد بها أبد إليك نوازع
رأيت علماءنا يستجيدون معناه , ولست أرى ألفاظه جياداً ولا مُبيّنة لمعناه , لأنه أراد : أنت في قدرتك عليّ كخطاطيف عقف يُمد بها , وأنا كدلو تمد بتلك الخطاطيف . وعلى أني أيضاً لست أرى المعنى جيدا .
الرابع : وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه كقول الأعشى في امرأة :
وفوها كأقاحيّ *** غذاه دائم الهطل
كما شيب براح *** بارد من عسل النحل
ويقول عن أشعار العلماء كشعر الخليل وشعر الأصمعي وشعر ابن المقفع ليس فيها شيء جاء عن إسماح وسهولة . الشعر والشعراء 1/ 71.
وعلى أية حال فواضح أن تقويم ابن قتيبة للشعر انحصر في إطار اللفظ والمعنى , ويبدو أن جودة اللفظ تكمن عنده في الصياغة التعبيرية وما تتضمنه من كلمات عذبة وجزلة وصور وموسيقى , وأما جودة المعنى فتكمن في تضمنه بعض الحكم والمعاني الخلقية النبيلة .
فالضرب الأول أحسن ضروب الشعر على الإطلاق فألفاظه حسنة مستعذبة وقعت في مواقعها من المعاني ولذلك اعتبره مقياساً أعلى للجمال الشعري .
وابن قتيبة يورد بعد الأبيات التي اختارها للضرب الأول أحكاماً عامة من مثل : لم يبتدئ أحد مرثيته بأحسن من هذا . أو قوله : لم يقل في الهيبة شيء أحسن منه . ولم يقل في الكبر شيء أحسن منه . وهي تعليقات بعيدة عن روح التعليل .
وفي الضرب الثاني نظر إلى شواهده من خلال الدلالة المعنوية وأغفل اللفظ وكأنه يرى أن الغرض الأساسي يكمن في المعنى وأن الألفاظ لا بد أن تكون في خدمة المعاني وهو عندما اعتبر معناها عاديا كان يبحث عن فكرة لأنه نظر إلى ما تحتها من معنى فوجده { ولما قضينا أيام منّى واستلمنا الأركان وعالينا إبلنا الأنضاء ومضى الناس لا ينظر الغادي الرائح ابتدأنا في الحديث وسارت المطي في الأبطح } وتابعه أبو هلال العسكري والباقلاني .
والحق أنه بهذه الرؤية قد أفقد الأبيات تناسقها التعبيري والإيقاعي وسلبها تلك الصور الرائعة يقول ابن طباطبا : (( هذا الشعر هو استشعار قائله لفرحة قفوله إلى بلده وسروره بالحاجة التي وصفها من قضاء حجه وأنه برفقائه ومحادثتهم ووصفه سيل الأباطح بأعناق المطي كما تسيل المياه فهو معنى مستوفى على قدر مراد الشاعر )) عيار الشعر 84.
ولم يوافق الشيخ عبد القاهر على رؤية ابن قتيبة بل عارضها فهو يرى أنها تمثل لوحة فنية لقوم عائدين إلى أوطانهم اكتسبت تصويراً فنياً رائعاً مع ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل المعنى إلى القلب ووصول اللفظ إلى السمع واستقر في الفهم … الأسرار 22-23
وفي حديثه عن الضرب الثالث يعلق على بيت لبيد بقوله : (( هذا وإن كان جيد المعنى والسبك فإنه قليل الماء والرونق )) , ويقصد بقوله : { قليل الماء والرونق } أن البيت يخاطب العقل إذ لم يكن للعاطفة دور في التصوير الفني .
وبالتالي فابن قتيبة لا ينظر إلى العمل الأدبي نظرة كلية وإنما يصدر حكمه على البيت والبيتين والثلاثة وهذا لا يساعد على تمكن الناقد من إصدار الحكم على العمل الأدبي ككل وإبراز ما فيه من جمال فني , ولا شك أن العقلية العلمية قد حدت بابن قتيبة إلى أن يقسم الشعر هذا التقسيم المنطقي الذي لا يجدي شيئاً . ولم يغفل ابن قتيبة قضية التناسب بين الموضوعات الشعرية – الذي يسميه القران – بين أبيات القصيدة , أي : الوحدة العضوية للقصيدة .
كذلك أشار إلى ما يقع في بعض الأشعار من عيوب في الوزن والقافية واللفظ والمعنى , فمن عيوب الوزن اللجوء إلى الأوزان الثقيلة أو القبيحة التي لا تحلو في الأسماع ولا تصح في الوزن .
ومن عيوب القافية : الإقواء { وهو اختلاف حركة الإعراب في القوافي – الروي } , والسناد { ألا هبي بصحنك فأصبحينا } بكسر الحاء وقوله : { تصفقها الرياح إذا جرينا } بفتح الراء .
والإجازة وهو { أن تكون القوافي مقيدة فتختلف الأرداف لأن من الجوازات تسكين الروي المتحرك } , والإيطاء وهو إعادة القافية مرتين , والإعراب وهو اضطرار الشاعر لتسكين ما كان ينبغي له أن يحركه , وقد يضطر الشاعر فيقصر الممدود وليس له أن يمد المقصور …الشعر 1/ 96-99.
*= السرقات عند ابن قتيبة
يقول : (( قلما يخلو شاعر من شعراء الجاهلية من الإغارة على شعر غيره أو إغارة غيره على شعره )) , ثم أخذ يسوق بعض الأبيات ومنها قول امرئ القيس :
وقوفاً بها صحبي علي مطيهم *** يقولون لا تهلك أسىً وتجمل
أخذه طرفة بن العبد فقال :
وقوفاً بها صحبي علي مطيهم *** يقولون لا تهلك أسىً وتجلّد
وقال أيضاً ومما سبق إليه طرفة فأخذ منه قوله :
ولولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى *** وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة *** كميت متى ما تُعل بالماء تزبد
أخذه عبد الله بن نهيك فقال :
ولولا ثلاث هنّ من لذة الفتى *** وجدّك لم أحفل متى قام رامسُ
فمنهن سبقي العاذلات بشربة *** كأن أخاها مطلع الشمس ناعسُ
ويذكر ابن قتيبة أن مما سبق إليه بشار قوله :
كأن مثار النقع فوق رؤوسهم *** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
أخذه العتابي فقال :
نبني سنابكها من فوق رؤوسهم *** سقفاً كواكبه البيض المباثير
ويؤكد أن بعض الأشعار لا يستطيع أحد ان ينازع فيها صاحبها منها قول عنترة المشهور في الذباب فقال : (( ومما سبق إليه ولم ينازع فيه قوله :
وخلا الذباب بها فليس ببارح *** غرداً كفعل الشارب المترنم
وقول زهير : فإن الحق مقطعه ثلاث *** يمين او نفار أو جلاء
وقوله في بيت لأرطأة بن سهية : (( ومما سبق إليه وأخذه منه قوله يصف الخيل :
كأن أعينها من طول ما جسمت *** سير الهواجر زيت في قوارير
ويلاحظ أن ابن قتيبة لم يستعمل لفظ السرقة أو الإغارة أو السلب كما استعملها معاصروه بل نراه يستعمل في حديثه عن السرقة عبارة { ومما سبق إليه فأخذ منه } حتى ولو أسرف الشاعر في الأخذ عن غيره .
يقول في عيون الأخبار : (( قيل لبعض علماء اللغة أرأيت الشاعرين يجتمعان على المعنى الواحد في لفظ واحد ؟ فقال : عقول رجال توافت على ألسنتها )) 2/ 182
كما نلحظ أنه لم يقل في الشعراء المحدثين بعد بشار { ومما سبق إليه فأخذ منه } وقد يكون ذلك لكثرة الأخذ وتوارد الشعراء على المعاني كثيراً
*= تقويم الشعراء :
ترجم ابن قتيبة لمائتين وستة من الشعراء وروى الكثير من أخبارهم وقدم في ثنايا تلك التراجم نماذج كثيرة من شعرهم , كما أورد بعض الأحكام النقدية عليهم وعلى شعرهم معللا لبعض الظواهر التي برزت في شعرهم .
لكن الأحكام النقدية التي عرضها في ثنايا كتابه الشعر والشعراء قد نقل أكثرها عن النقاد السابقين دون عزو أو إشارة لأقوالهم , من ذلك ما أخذه عن ابن سلام في تعليل شعر عدي بن زيد , أو نقله قول الأصمعي في حسان بن ثابت . الشعر والشعراء 1/ 219, 296.
ومع هذا فقد تنبه إلى خصائص جزئية تبرز أحيانا في شعر الشاعر فزهير بن أبي سلمى يتأله ويتعفف في شعره ويدل شعره على إيمانه بالبعث كقوله :
يؤخر فيودع في كتاب فيدخر *** ليوم الحساب أو يعجل فينقم .
الشعر والشعراء 1/ 139. وأشار إلى ظاهرة البؤس في شعر تأبط شراً , وقال : أما الشماخ بن ضرار فإنه أوصف للحمير وأرجز الناس على بديهة , وأن عمرو بن قميئة ممن أنصف في شعره وصدق , وأما أبو نواس فغزله ضعيف مشاكل لطبائع النساء . الشعر 1/ 301, 305, 356
وأشار إلى أنه من الممكن اشتراك أكثر من شاعر في جزيئة واحدة فأبو دؤاد الأيادي أحد نعات الخيل المجيدين في الجاهلية وطفيل الغنوي والنابغة الجعدي . الشعر والشعراء 1/ 232
ولم يكتف بإيراد الأحكام الجزئية بل ساق أحكاماً عامة حيث ينظر إلى نتاج الشاعر بأكمله فيكشف مكانته الأدبية بين الشعراء فامرؤ القيس قد سبق إلى أشياء ابتدعها واستحسنتها العرب واتبعه الشعراء من استيقافه صحبه في الديار ورقة النسيب وقرب المأخذ . 1/ 111
أما الحطيئة فقد قال عن زهير : ما رأيت مثله في تكفيه على أكناف القوافي , وأخذه بأعنتها حيث شاء من اختلاف معانيها امتداحا وذما . الشعر والشعراء 1/ 143 .
ونقل ابن قتيبة عن أبي عبيدة قوله في النابغة الذبياني : أنه كان أوضح الشعراء كلاماً وأقلهم سقطاً وحشوا وأجودهم مقاطع وأحسنهم مطالع ولشعره ديباجة إن شئت قلت : ليس بشعر مؤلف من تأنثه ولينه , وإن شيئت قلت : صخرة لو رديت بها الجبال لأزالتها . الشعر 1/ 166
وقد ربط بين الشعراء المتقدمين والشعراء المتأخرين في احتذاء المنهج فكان جرير يشبه الأعشى , وكان الفرزدق يشبه زهيراً , والعباس بن الأحنف يشبه عمر بن أبي ربيعة .
أما آراؤه البلاغية فقد أودعها في كتابه العظيم (( تأويل مشكل القرآن )) وقد تناول ألواناً بلاغية عديدة منها , يقول في فاتحة كتابه تأويل مشكل القرآن : (( وللعرب المجازات في الكلام ومعناها طرق القول ومأخذه ففيها : الاستعارة والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والإفصاح والإيضاح ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع والجميع خطاب الواحد والواحد والجميع خطاب الاثنين والقصد بلفظ الخصوص المعنى العموم وبك هذه المذاهب نزل القرآن )) تأويل مشكل القرآن 21. والاختصار والفصل والوصل والتشبيه والمجاز والكناية والتوجيه والمشاكلة والفواصل القرآنية .
وكان حلقة وصل بين الجاحظ وبين من جاء بعده كابن المعتز مروراً بالمبرد وثعلب ويبقى ابن قتيبة متميزاً عن الجاحظ بما عرف عنه من التبويب وحصر المادة البلاغية لا كما عرف عن الجاحظ من طبيعة الاستطراد والانتقال من موضوع إلى آخر وهو فضل كبير لابن قتيبة كانت البلاغة نفسها في مسيس الحاجة إليه .
ونلاحظ أن ابن قتيبة أورد الموضوعات البلاغية متعاقبة من دون تفريق بين ما يخص بها علم المعاني أو البيان أو البديع .
وفي تعريفه للبلاغة ينقل الأقوال والآثار المتداولة في معظم الكتب في زمنه لذلك نراه ينقل قول الأصمعي : { البليغ من طبق المفصل وأغناك عن المفسر }
عرض للتشبيه وساق شواهده من القرآن فمثلاً قوله تعالى : (( إنها ترمي بشرر كالقصر , كأنه جمالات صفر)) قال وقع تشبيه الشرر بالقصر في مقاديره ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر .
والمجاز عند ابن قتيبة ما يقابل الحقيقة وليس قولاً ولا كلاماً على الحقيقة وإنما هو إيجاد للمعنى وصرفوه في كثير من القرآن إلى المجاز . انظر تأويل مشكل القرآن 78
وتوسع ابن قتيبة في مفهوم المجاز فأدخل فيه ما خالف ظاهر اللفظ معناه كمخاطبة الواحد مخاطبة الجميع والعكس والواحد والجميع خطاب الاثنين . ومعنى هذا ان المجاز عنده ثوب فضفاض يتسع للكثير من الألوان البلاغية .
وأبدى اهتماما خاصاً بالاستعارة فقدمها على غيرها من أبواب المجاز معللاً ذلك بأن أكثر المجاز يقع في الاستعارة , ويقول : (( العرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة إذا كان المسمى بها بسبب من الأخرى أو مجاوراً لها أو مشاكلاً )) تأويل مشكل القرآن 135.
والاستعارة عنده تكاد تكون مرادفة لكلمة المجاز , فالاستعارة في قوله : { ضحكت الأرض } إذ أنبتت لأنها تبدي عن حسن النبات وتتفتق عن الزهر كما يفتر الضاحك عن الثغر .
وفي قوله تعالى : (( وامرأته حمالة الحطب )) يبين ان استعمال الحطب في النميمة أمر شائع عن العرب , ومن هذا قيل : فلان يحطب على فلان إذا أغرى به , شبهوا النميمة بالحطب ويقال : نار الحقد لا تخبو , فاستعاروا الحطب في موضع التسمية .
وفي قوله تعالى : (( فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم )) يقول الذنوب الحظ والنصيب وأصل الذنوب الدلو , فاستعير في موضع النصيب .
والاستعارة عند ابن قتيبة تشمل المجاز المرسل باختلاف علاقاته , يقولون للمطر سماء لأنه ينزل من السماء , فيقال ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم , قال الشاعر :
إذا نزل السحاب بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا
وهذا مجاز مرسل علاقته المحلية أو السببية , ومن الاستعارة (( وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون )) لأن دخولهم إياها كان برحمته فالرحمة سبب في دخول الجنة أي العلاقة السببية والمتأخرون يقولون إنه مجاز علاقته الحالية لأن الرحمة حالة في الجنة.
وكما تشمل الاستعارة المجاز المرسل تشمل الكناية أيضاً فهو لا يفرق بينها وبين الاستعارة يقولون : لقيت من فلان عرق القربة أي شدة ومشقة وأصل هذا أن حامل القربة يتعب في نقلها حتى يعرق جبينه فاستعير عرقها في موضع الشدة , وفي قوله (( وثيابك فطهر )) أي طهر نفسك من الذنوب فكنى عن الجسم بالثياب لأنها تشتمل عليه . تأويل مشكل القرآن 142
ويقول عند قول الله تعالى : (( ولكن لا تواعدوهن سراً )) السر : النكاح لأن النكاح يكون سراً ولا يظهر فاستعير له السر )) وقال في قوله تعالى : (( لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا )) أصل اللهو الجماع فكنى عنه باللهو .. )) تأويل مشكل القرآن 141
ويدخل أيضاً في الاستعارة قوله تعالى : (( هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن )) فشبه النساء أولاً والرجال ثانياً باللباس , وهذا كله داخل في باب الاستعارة عند ابن قتيبة .
وأفرد باباً بعنوان { مراعاة الكلام لمقتضى الحال } (( فالخطيب من العرب إذا ارتجل كلاماً في نكاح أو حمالة أو تحضيض أو صلح لم يأت به من واد واحد بل يفتن فيختصر تارة إرادة التخفيف , ويطيل تارة إرادة الإفهام , ويكر تارة إرادة التوكيد , ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين , ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجمين , ويشير إلى الشيء ويكني عن الشيء , وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال , وقدر الحفل وكثرة الحشد وجلالة المقام )) تأويل مشكل القرآن 13
ويقول في موضع آخر : (( ولو كان الإيجاز محموداً في كل الأحوال لجرده الله تعالى في القرآن ولم يفعل الله ذلك , ولكنه أطال تارة للتوكيد وحذف تارة للإيجاز وكرر تارة للإفهام وليس يجوز لمن قام مقاماً في تحضيض على حرب أو حمالة بدم أو صلح بين العشائر أن يقلل الكلام ويختصره ولا لمن كتب إلى عامة كتاباً في فتح أو استصلاح أن يوجز ) أدب الكاتب 21.
لذلك نراه يلح على هذه الفكرة في ثنايا أقواله وتوصياته وتضاعيف كتبه فمن وصاته للكاتب قوله :(( ونستحب له أن ينزل ألفاظه في كتبه فيجعلها على قدر الكاتب والمكتوب , وألا يعطي خسيس الناس رفيع الكلام فإني رأيت الكتاب قد تركوا تفقد هذا من أنفسهم وخلّطوا فيه )) أدب الكاتب 21.
ويستدل على مراعاة الكلام لمقتضى أحوال المخاطبين والمتكلمين على حد سواء بما قاله أحد علماء الهند : (( أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح قليل اللحظ متخيراً للفظ لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة ولا الملوك بكلام السوقة ويكون في قوله فضل لتصرف في كل طبقة … قد تعود حذف فضول الكلام وإسقاط مشتركات الألفاظ , أي : يخاطب كلاً بما يفهم وبما يناسبه ويوجز في كلامه ويختار ألفاظه ولكن يدعوه إلى عدم تقيحها كل التنقيح وتصفيتها كل التصفية ولا يهذبها غاية التهذيب ولا يفعل ذلك حتى يصادف حكيماً أو فيلسوفاً عليماً )) عيون الأخبار 2/ 173
وذكر موضوع التقديم والتأخير بعد ذكره للقلب اللغوي والبلاغي فقال : (( ومن المقلوب أن يقدم ما يوضحه التأخير ويؤخر ما يوضحه التقديم , ومن المقدم المؤخر قوله تعالى : (( الحمد لله الذي انزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا , قيماً )) وقوله : (( فضحكت فبشرناها بإسحاق )) أي بشرناها بإسحاق فضحكت . تأويل مشكل القرآن 193, 205.
وقوله تعالى : (( ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى )) أي : ولولا كلمة سبقت وأجل مسمى لكان لزاماً . وقوله تعالى : (( واجعلنا للمتقين إماما )) أي : اجعل المتقين لنا إماماً في الخير . تأويل مشكل القرآن 205.
ولكن ابن قتيبة لم يذكر النكتة البلاغية أو الأثر البلاغي للتقديم والتأخير والحق أنه لم يضف في هذا الموضوع شيئاً وإنما اقتفى أثر العلماء قبله فقد ذكر ذلك سيبويه وتبعه أبو عبيدة .
وذكر القلب واستشهد ببعض الأمثلة التي استشهد بها الجاحظ قبله فعوّل عليها , والقلب عنده أعم منه عند سيبويه وأبي عبيدة والفراء لأنه تناول فيه ما يتصل باللغة وما يتصل بالتصريف ثم ما يدخل في البلاغة وجمعها في سلك واحد تحت باب المقلوب .
وذكر نوعاً من المقلوب فقال : (( ومن المقلوب ما قلب على الغلط … وكان بعض أصحاب اللغة يذهب في قول الله تعالى : (( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء )) إلى مثل هذا في القلب , ويقول : وقع التشبيه بالراعي في ظاهر الكلام والمعنى للمنعوق به وهو الغنم .
وهذا ما لا يجوز لأحد ان يحكم به على كتاب الله لو لم يجد له مذهباً لأن الشعراء تقلب اللفظ وتزيل الكلام على الغلط أو على طريق الضرورة للقافية أو لاستقامة وزن البيت والله تعالى لا يغلط ولا يضطر , وإنما أراد : ومثل الذين كفروا ومثلنا في وعظهم كمثل الناعق بما لا يسمع فاقتصر على قوله : ( ومثل الذين كفروا ) وحذف ( ومثلنا ) لأن الكلام يدل عليه ومثل هذا كثير في الاختصار )) فجعل علة القلب هو الاختصار . تأويل مشكل القرآن 199
وقد توسع في إيجاز الحذف أما إيجاز القصر فلم يفرد له باباً خاصاً وإنما ذكره في أول كتابه تأويل مشكل القرآن ونراه يشيد بالقرآن الكريم الذي جمع الكثير من معانيه في القليل من لفظه يقول : (( فإن شئت أن تعرف ذلك فتدبر قوله تعالى إذ ذكر الأرض فقال : (( أخرج منها ماءها ومرعاها )) كيف دلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام من العشب والشجر والحب والثمر والعصف واللباس والنار والملح لأن النار من العيدان والملح من الماء وينبئك أنه أراد ذلك قوله : (( متاعاً لكم ولأنعامكم )) . تأويل مشكل القرآن 210
وساق مثالاً آخر فقال : (( وفكر في قوله تعالى حين ذكر جنات الأرض فقال : (( يُسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل )) كيف دلّ على نفسه ولطفه ووحدانيته وهدى للحجة على من ضل عنه لأنه لو كان ظهور الثمرة بالماء والتربة لوجب في القياس ألا تختلف الطعوم ولا يقع التفاضل في الجنس الواحد إذا نبت في مغرس واحد وسقي بماء واحد ولكنه صنع اللطيف الخبير .
وساق مثالاً ثالثاً وهو قوله تعالى : (( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب )) يريد أنها تُجمع وتسير في لكثرتها كأنها جامدة واقفة في رأي العين وهي تسير سير السحاب .
وأورد أمثلة على إيجاز الحذف فذكر منها :
= أن تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه وتجعل الفعل له كقوله تعالى : (( وأشربوا في قلوبهم العجل )) أي : حبه . و (( الحج أشهر معلومات )) أي : وقت الحج .
= أن توقع الفعل على شيئين وهو لأحدهما وتضمر للآخر فعله مثل قوله تعالى : (( فأجمعوا أمركم وشركاءكم )) أي : وادعوا شركاءكم .
= أن تأتي بالكلام مبيناً على أن له جواباً فيحذف الجواب اختصاراً لعلم المخاطب به كقوله سبحانه وتعالى : (( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال او قطعت به الأرض أو كُلّم به الموتى بل لله الأمر جميعاً )) أراد : لكان هذا القرآن , فحذف .
= حذف الكلمة والكلمتين كقوله تعالى : (( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منّا )) والمعنى : يقولون : ربنا تقبل منّا .
= حذف الثناء الحسن لعلم المخاطب بالمراد , من ذلك قوله : (( وتركنا عليه في الآخرين )) أي : أبقينا له ذكراً حسناً في الآخرين , كأنه قال : تركنا عليه ثناء حسناً , فحذف الثناء الحسن لعلم المخاطب بما أراد .
وتحدث عن الإطناب فقال : (( ومن مذاهبهم التكرار إرادة التوكيد والإفهام لأن افتنان المتكلم والخطيب في الفنون , وخروجه من شيء إلى شيء احسن من اقتصاره في المقام على فن واحد )) تأويل مشكل القرآن 235
ويؤكد ان التكرار جاء لأغراض كثيرة في القرآن منه :
= تكرار الكلام من جنس واحد وبعضه يجزئ عن بعض من أجل التوكيد والتقرير . وساق مثاله قال تعالى : (( قل يأيها الكافرون )) فقال : ولا موضع أولى بالتكرار للتوكيد على السبب الذي نزلت فيه (( قل يأيها الكافرون )) لأنهم راودوه على أن يعبد ما يعبدون ليعبدوا ما يعبد وأبدأوا في ذلك وأعادوا فأراد الله عز وجل حسم اطماعهم وإكذاب ظنونهم فأبدا وأعاد في الجواب . تأويل مشكل القرآن 237
وفي قوله تعالى : (( فبأي آلا ربكما تكذبان )) فإنه عدد في هذه السورة نعماءه وأذكر عباده آلاءه ونبههم على قدرته ولطفه بخلقه ثم أتبع ذكر كل خلة وصفها بهذه الآية وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ليفهمهم النعم ويقررهم بها )) تأويل مشكل القرآن 239
= تكرار المعنى بلفظين مختلفين من أجل إشباعه وهو ما نص عليه في قوله : (( فلإشباع المعنى والاتساع في الألفاظ كقوله تعالى: ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) والنخل والرمان من الفاكهة فأفردهما عن الجملة التي أدخلهما فيها لفضلهما وحسن موقعهما . المشكل 240
= تكرار القصص للوعظ والتنبيه وتثبيت فؤاد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبذلك فسر ابن قتيبة ما جاء من تكرار لها في القرآن الكريم بقوله : (( ومن حكمة التكرار أن وفود العرب ترد على رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – كما كان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة فلو لم تكن الأنباء والقصص مثناة مكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى قوم وقصة نوح إلى قوم فأراد الله تعالى بلطفه ورحمته ان يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويلقيها في كل سمع ويثبتها في كل قلب ويزيد الحاضرين في الإفهام والتحذير )) تأويل مشكل القرآن 234
وأما الزيادة فإنها على سبيل التوكيد ولأغراض بلاغية وتكون بالكلمات والحروف , فأما ما يخص الكلمات فقد مثل ابن قتيبة لذلك بقوله تعالى : (( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم )) لأن الرجل قد يقول بالمجاز : كلمت فلاناً وإنما كان ذلك كتاباً أو إشارة على لسان غيره فأعلمنا أنهم يقولون بألسنتهم . وقوله : (( يكتبون الكتاب بأيديهم )) لأن الرجل يكتب بالمجاز وغيره الكاتب عنه .
وقد أفرد باباً تحدث فيه عن مخالفة ظاهر اللفظ معناه , وذكر فيه الأساليب الإنشائية الطلبية وغير الطلبية من دعاء واستفهام وأمر ولم يقتصر في هذا الباب على ما عرف عند البلاغين وإنما جعله واسعاً شمل ما قاله البلاغيون بالإضافة إلى الالتفات والعلاقات المجازية , ومن ذلك :
*- الدعاء وفيه قال : (( الدعاء على جهة الذم الذي لا يراد به الوقوع كقوله تعالى : (( قتل الإنسان ما أكفره )) وقد يراد بهذا التعجب من إصابة الرجل في منطقه أو في شعره أو رميه فيقال : قاتله الله ما أحسن ما قال ! ولله درّه , ما أحسن ما احتج به ! تأويل مشكل القرآن 275
*- الاستفهام الذي يخرج إلى التقرير أو التعجب او التوبيخ يقول : (( ومنه أن يأتي الكلام على مذهب الاستفهام وهو تقرير كقوله تعالى : (( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله )) ومنه ان يأتي على مذهب الاستفهام وهو تعجب كقوله تعالى : (( عم يتساءلون , عن النبأ العظيم )) ومنه أن يأتي على مذهب الاستفهام وهو توبيخ كقوله تعالى : (( أتأتون الذكران من العالمين )) تأويل مشكل القرآن 279- 280
*- الأمر وذكر أنه قد يخرج عن معناه الحقيقي إلى أسلوب التهديد كقوله تعالى : (( اعملوا ما شئتم )) أو التأديب كقوله تعالى : (( واهجروهن في المضاجع )) أو الإباحة كقوله تعالى : (( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا ))
*= وقال عن الالتفات : (( ومنه أن تخاطب الشاهد بشيء ثم تجعل الخطاب له على لفظ الغائب كقوله تعالى : (( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها ))
ومنه خطاب الغائب للشاهد كقول الهذلي :
يا ويح نفسي كان جدة خالد *** وبياض وجهك للتراب الأعفر . تأويل مشكل القرآن 289
*= خطاب الرجل بشيء ثم جعل الخطاب لغيره كقوله تعالى : (( فإن لم يستجيبوا لكم )) الخطاب للرسول – صلى الله عليه وسلم – ثم قال للكفار : (( فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو )) يدلك على ذلك قوله : (( فهل أنتم مسلمون ))
*= الجزاء عن الفعل بمثل لفظه والمعنيان مختلفان نحو قوله تعالى : (( إنما نحن مستهزءون , الله يستهزئ بهم )) أي يجازيهم جزاء الاستهزاء 277
ومن العلاقات المجازية التي ذكرها ابن قتيبة جاعلاً إياها من مخالفة ظاهر اللفظ معناه :
= مجيء المفعول به على لفظ الفاعل كقوله تعالى : (( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم )) أي : لا معصوم من أمره . وقوله تعالى : (( عيشة راضية )) أي : مرضية
= مجيء الفاعل على وزن المفعول كقوله تعالى : (( إنه كان وعده مأتيا )) أي : آتيا .
= مجيء فعيل بمعنى مُفعل نحو قوله تعالى : (( بديع السموات والأرض )) أي : مبدعها , وكذلك : (( عذاب أليم )) أي : مؤلم . تأويل مشكل القرآن 296-297
وتحدث عن التشبيه لكنه لم يفرد له باباً خاصاً في تأويل مشكل القرآن عامداً ذلك وقاصداً إليه لأن التشبيه لخطورته وخاصة إذا اراد ان يعالج فيه قضية تشبيه الذات العلية بالحوادث لا يكفيه باب وإنما أفرد له كتاباً خاصاً بعنوان { اختلاف اللفظ والمعنى والرد على الجهمية والمشبهة } .
وقد ذكر التشبيه في كتابيه المشكل والشعر والشعراء وذكر أنواعه من حيث الجودة والرداءة وأبرز أقسامه وإن كان الغرض الذي يرمي إليه النقد لكن المضمون كان بلاغياً .
وقد كان ابن قتيبة ينفي التشبيه بمعنى التجسيم ولكنه يوجه النصوص إلى التشبيه والتمثيل وذلك في مثل الحديث الشريف { الحجر الأسود يمين الله في أرضه يصافح بها من شاء من خلقه } قال ابن قتيبة : ونحن نقول إن هذا تمثيل وتشبيه وأصله ان الملك كان إذا صافح رجلاً قبّل الرجل يده فكأن الحجر لله تعالى بمنزلة اليمين للملك تستلم وتلثم )) تأويل مختلف الحديث 215
ونجد ابن قتيبة يكثر من التشبيه في كتابه المعاني الكبير1/ 40, 52 بكل أنواعه وذلك عندما كان يعرض للخيل , فقال : (( ويشبهونها بالعصا والدلو والماء والسيل والظبي والرشا والسهم والصقر والنعامة والخذروف فيقول : قال أبو دواد في تشبيه الخيل بالنعامة :
يمشي كمشي نعامة تبعت *** أخرى إذا هي راعها خطب
وعرض للتشبيه في قوله تعالى : (( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن )) فقال : أي كالسراب يحسبه العطشان من البعد ماء يرويه حتى إذا جاءه أي مات لم يجد عمله شيئاً لأن الله قد أبطله بالكفر ومحقه )) تأويل مشكل القرآن 329
ويذكر الإصابة في التشبيه ويجعلها سبباً لاختيار الشعر فيقول : (( وليس كل شعر يختار ويحفظ على جودة اللفظ والمعنى ولكنه يختار على جهات وأسباب منها الإصابة في التشبيه كقول القائل في القمر :
بدأن بنا وابن الليالي كأنه *** حسام جلت عنه القيون صقيل
فما زلت أفني كل يوم شبابه *** إلى أن أتتك العيش وهو ضئل
فقد جعل الإصابة في التشبيه مقياساً من مقايس النقد عنده وأساساً لاختيار الشعر . كذلك ذكر جودة التشبيه في حكمه على بيت امرئ القيس :
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً *** لدى وكرها العناب والحشف البالي
فقال : (( … فقد شبه شيئين بشيئين في بيت واحد , وأحسن التشبيه )) لكن لم يذكره باسمه الاصطلاحي . وساق أمثلة على التشبيه الحسن والجيد فقال في بيت امرئ القيس في وصف الفرس :
له أيطلا ظبي وساقا نعامة *** وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
(( وقد تبعه الناس في هذا الوصف فأخذوه ولم يجتمع لهم ما اجتمع له في بيت واحد )) الشعر والشعراء 1/ 134
وكان يستحسن بعض تشبيهات الشعراء فيقول مبيناً حكمه إن أعظم شاعرين استخدما التشبيه بطريقة جيده هما : ذو الرمة والنمر بن تولب وفي ذلك قال : (( من جيد التشبيه قول النمر بن تولب في إعراض المرأة : الشعر والشعراء 1/ 310
فصدت كأن الشمس تحت قناعها *** بدا حاجب منها وضنت بحاجب
حتى إن المحدث أبا نواس أخذه منه فقال :
يا قمراً للنصف من شهره *** أبدى ضياء لثمان بقين
وقال : (( ذو الرمة أحسن الناس تشبيهاً وإنما وضعه عندهم أنه لا يجيد المدح ولا الهجاء )) واستحسن تشبيه العباس بن الأحنف فقال : (( ومن بديع تشبيهه قوله في المرأة إذا مشت :
كأنها حين تمشي في وصفائها *** تخطو على البيض أو خضر القوارير
انظر : الشعر والشعراء 1/ 534, 2/ 819 .
ولم يكتف بالتشبيهات الجيدة التي استحسنها بل ذكر التشبيهات المعيبة , وكان أحياناً يفسر لنا موطن الخلل أو العيب فيها وأحياناً كثيرة يغفل ذلك منها في امرئ القيس (( … ويعاب عليه قوله : أغرّك مني أن حبك قاتلي *** وأنك مهما تأمري القلب يفعل
ولكن هذا لا يعده ابن قتيبة عيباً وفي ذلك يقول : (( … ولا أرى ذلك عيباً ولا المثل المضروب له شكلاً لأنه لم يرد بقوله { حبك قاتلي } القتل بعينه وإنما أراد به قد برّح بي , فكأنه قد قتلني . وهذا – كما يقول القائل – : قتلتني المرأة بدلالها وبعينها , وقتلني فلان بكلامه . فأراد : أغرك في أن حبك قد برّح بي , وأنه مهما تأمري قلبك به من هجري والسلو عني يطعك , أي : فلا تغتري بهذا )) الشعر 1/ 135.
وقد انتقد بعضهم ابن قتيبة لاستعماله التشبيه والتمثيل على أنهما مترادفان لأن التشبيه التمثيلي عند البلاغيين غير التشبيه العادي فنقد غير صحيح لأن ابن قتيبة يستعمل بمعناه اللغوي لأن مثل الشيء : شبهه , ولم يقصد ما ذهبوا إليه من إرادة التشبيه التمثيلي لأن المصطلح لم يكن معروفاً في عصره .
وتناول موضوع المجاز ورد على الطاعنين في القرآن بالمجاز فإنهم زعموا أنه كذب , وأورد له أمثلة كثيرة كقوله تعالى عن الجدار : (( يريد أن ينقض )) وقوله تعالى : (( واسأل القرية التي كنّا فيها )) لأن الجدار لا يريد , والقرية لا تُسأل . تأويل مشكل القرآن 133.
وفي ذلك قال : (( وهذا من أشنع جهالاتهم وأدل على سوء نظرهم وقلة إفهامهم ولو كان المجاز كذباً وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلاً كان أكثر كلامنا فاسداً لأنا نقول : نبت البقل وطالت الشجرة وأينعت الثمرة وأقام الجبل ورخص السعر , فهو يرد على من أنكر المجاز ويفسر قوله تعالى : (( فإذا عزم الأمر )) وإنما يعزم عليه . وقوله : (( فما ربحت تجارتهم )) وإنما يربح فيها . تأويل مشكل القرآن 132.
وقال : (( ذهب قوم في قول الله وكلامه إلى أنه ليس قولاً ولا كلاماً على الحقيقة , وإنما هو إيجاد المعاني , وصرفوه في كثير من القرآن إلى المجاز كقول القائل : قال الحائط فمال . وقال بعضهم في قول الملائكة : (( اسجدوا لادم )) هو إلهام منه للملائكة كقوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل )) أي : ألهمها . تأويل مشكل القرآن 106
ونجده يطلق المجاز على بعض الأساليب ويطلق الاستعارة على أساليب أخرى فيقول : (( نبدأ بباب الاستعارة لأن أكثر المجاز يقع فيها )) فدائرة المجاز عنده أوسع من دائرة الاستعارة وهو أعم وأشمل منها , فمن خصائص العرب اتساعهم في المجاز وتفننهم في التعبير , وفي هذا يقول ابن قتيبة : (( وللعرب المجازات في الكلام ومعناها طرق القول ومآخذه , ففيها الاستعارة والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والإفصاح والكناية والإيضاح .. وبكل هذه المذاهب نزل القرآن ولذلك لا يقدر أحد من التراجم أن ينقله إلى شيء من الألسنة كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية , وترجمت التوراة والزبور وسائر كتب الله تعالى بالعربية لأن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب )) تأويل مشكل القرآن 20-21.
ولو أردت أن تنقله بلفظه لم يفهمه المنقول إليه فيقول في قوله تعالى : (( فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً )) فإن قلت : أنمناهم سنين عددا لكنت مترجماً للمعنى دون اللفظ .تأويل مشكل القرآن 21.
ولم يفرق ابن قتيبة بين المجاز العقلي واللغوي ولا بين المجاز المرسل والاستعارة فجعل دائرة المجاز أوسع منها ونص على أن المجاز أعم والاستعارة أخص ولكنه يعرف الاستعارة بقوله : (( فالعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة الأخرى إذا كان المسمى بها بسبب من الأخرى أو مجاوراً لها او مشاكلاً )) تأويل مشكل القرآن 135. وبذلك يخرج عن جعل الاستعارة مقصورة على علاقة المشابهة إذ لم تكن هناك حدود واضحة المعالم بين المجاز والاستعارة على ما نحو ما عرف عند المتأخرين , بل كانت بعض أنواع المجاز عنده داخلة في الاستعارة . وذكر بعض الأمثلة فقال : (( … فكما يستعيرون الكلمة يضعونها مكان الكلمة لتقارب ما بينهما , أو لأن إحداهما سبب للأخرى فيقولون : ندى , لأنه بالندى ينبت , ويقولون للنبات : نوء , لأنه عن النوء عندهم . ويقولون للمطر : سماء . وضحكت الأرض : إذا أينعت .
كذلك يستعيرون الحرف من الكلمة مكان الحرف فيقولون : مدهته بمعنى : مدحته , وقد ذكرها الجاحظ قبله فقال : { تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه }
ونراه يصرح في نهاية باب المجاز يقول : ( ونبدأ بباب الاستعارة لأن أكثر المجاز يقع فيها , ومن الاستعارة { الأخذ } وأصله باليد ثم يستعار في مواضع فيكون بمعنى القبول , قال تعالى : (( وأخذتم على ذلكم إصري )) أي : قبلتم عهدي . وقال : (( خذ العفو )) أي : اقبله . ويكون بمعنى الحبس والأسر كقوله تعالى : (( فخذ احدنا مكانه ) أي : احبسه . والأخذ التعذيب قال تعالى : (( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى )) أي : تعذيبه .
ومن الاستعارة { اللسان } يوضع موضع القول لأن القول يكون بها قال تعالى : (( واجعل لسان صدق في الأخرين )) أي : ذكراً حسناً . وهذا عند المتأخرين مجاز علاقته السببية .
ومنه الذكر يوضع موضع الشرف لأن الشريف يذكر قال تعالى : (( وإنه لذكر لك ولقومك )) يريد أن القرآن مشرف لكم . وهذا عند المتأخرين من المجاز , فلسان صدق مجاز علاقته الآلية
وكذلك قوله : (( ناصية كاذبة خاطئة )) وإنما يعني صاحبها . وفي قوله تعالى : (( سنسمه على الخرطوم )) يقول : ذهب بعض المفسرين إلى أن الله يسم وجهه بالسواد . وللعرب في مثل هذا اللفظ مذهب نخبر به : تقول العرب للرجل يسب الرجل سبة قبيحة : قد وسمه بميسم سوء , وربما استعاروا للهجاء غير الوسم .
ومنه قوله تعالى : (( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )) قال ابن قتيبة : وأصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع الابتلاء والاختبار , تقول في الكلام : ناظر فلاناً وذق ما عنده , أي : تعرف واختبر . تأويل مشكل القرآن 164
ومنه قوله تعالى : (( وأفئدتهم هواء )) قال : يريد أنها لا تعي خيراً لأن المكان إذا كان خالياً فهو هواء حتى يشغله الشيء . تأويل مشكل القرآن 139.
ومنه قوله تعالى : (( أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس )) أي : كان كافراً فهديناه وجعلنا له إيماناً يهتدي به سبيل الخير والنجاة .
(( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها )) أي : في الكفر فاستعار الموت مكان الكفر والحياة مكان الهداية والنور مكان الإيمان .
وقوله تعالى : (( ولكنا حُملنا أوزارا من زينة القوم )) أي : أحمالاً من حيلهم فشبه الإثم بالحمل فجعل مكانه .
ونراه يطلق على بعض الشواهد اسم الاستعارة وهي حقيقة الكناية كقوله : (( ومن الاستعارة في كتاب الله قوله تعالى : (( يوم يُكشف عن ساق )) أي : عن شدة الأمر كذلك قال قتادة وقال إبراهيم : عن أمر عظيم . تأويل مشكل القرآن 137.
ويفسر ذلك بقوله : ( وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجد فيه , شمّر عن ساقه , فاستعيرت الساق في موضع الشدة . وقال دريد بن الصمة :
كميش الإزار خارج نصف ساقه *** صبور على الجلاء طلاّع أنجد
وقوله تعالى : (( وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا )) وهذه كناية .
وكان ابن قتيبة في بعض الأحيان يطلق على المثال الواحد أكثر من تسمية بلاغية ففي قوله تعالى : (( لا تواعدهن سراً )) مرة يطلق عليه الاستعارة , ومرة تعلى الكناية إذ قال : فاستعير له أي : للنكاح : السر , وقال كما كنى عنه بالسر .
ومن الملاحظ ان الفنون البلاغية التي استخدمها السكاكي والقزويني ومصطلحاتها لم تكن استقرت بتصنيفها في عصر ابن قتيبة لذلك نجد أنه تحدث عن المجاز ثم الاستعارة ثم عن الكناية ثم عن المبالغة من دون تمييز واضح بينها فنراه يقول في قوله تعالى : (( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين )) .
تقول العرب إذا أرادت تعظيم مهلك رجل عظيم الشأن رفيع المكان عام النفع كثير الصنائع : أظلمت الشمس له وكسف القمر لفقده وبكته الريح والبر والسماء والأرض يريدون المبالغة في وصف المصيبة به وأنها قد شملت وعمت )) وكان هذا جائزاً في أساليبهم ولا يعده ابن قتيبة من باب المبالغة .
ونرى ابن قتيبة يفرد باباً خاصاً في تأويل مشكل القرآن للكناية والتعريض لكنه لم يفرق بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للكناية فيقول : (( الكناية أنواع ولها مواضع منها أن تكني عن اسم الرجل بالأبوة لتزيد من الدلالة عليه إذا أنت راسلته أو كتبت إليه إذا كانت الأسماء تتفق أو لتعظيمه في المخاطبة بالكنية لأنها تدل على الحنكة وتخبر عن الاكتهال )) تأويل مشكل القرآن 256.
وفي ذلك ساق كثيرا من الأمثلة , منها قوله تعالى : (( وثيابك فطهر )) أي : طهر نفسك من الذنوب فكنى عن الجسم بالثياب لأنها تشتمل عليه , والعرب تقول : قوم لطاف الأزر أي خماص البطون لأن الزر تلاث عليها , ويقولون : فدى لك إزاري , يريدون : بدني .
ومنه قوله تعالى : ويقبضون أيديهم )) أي : يمسكون عن العطية , وأصل هذا ان المعطي بيده يمدها ويبسطها بالعطاء فقيل لمن بخل ومنع : قد قبض يده .
ويذكر أمثلة كثيرة للاستعارة في باب الكناية وينص على أنها استعارة , وذلك لأن تمييز الفنون البلاغية لم يكن واضحاً في عصره منها قوله تعالى : (( وأعتدت لهن متكئاً )) أي : طعاماً , يقال : اتكأنا عند فلان أي : طعمنا . والأصل أن من دعوته ليطعم له التكأة للمقام والطمأنينة فسمي الطعام متكأ على الاستعارة )) تأويل مشكل القرآن 180.
ولكننا نجده في كتابه { تأويل مشكل الحديث } يتحدث عن الكناية الاصطلاحية بوضوح والأمثلة التي ساقها عن الكناية هي الأمثلة التي تلقفها العلماء بعده وزجوا بها في كتبهم .
يقول : (( وكلام العرب إيماء وإشارة وتشبيه يقولون : فلان طويل النجاد والنجاد حمائل السيف وهو لم يتقلد سيفا قط وإنما يريدون أنه طويل القامة فيدلون بطول نجاده على طوله لأن النجاد القصير لا يصلح على الرجل الطويل . ويقولون : فلان عظيم الرماد ولا رماد في بيته ولا على بابه وإنما يريدون أنه كثير الضيافة فناره وارية أبداً . وإذا كثر وقود النار كثر الرماد .
ويلمح ابن قتيبة معنى التشبيه في الكناية فيقول : (( والكناية يكون فيها معنى التشبيه ومنها حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – : { إني لأجد نفس ربكم من قبيل اليمن } وهذا من الكناية لأن معنى هذا لأنه قال : كنت في شدة وكرب وغم من أهل مكة ففرج الله عني بالأنصار يعني أنه يجد الفرج من قبل الأنصار وهم من اليمن فالريح من فرج الله وروحه كما كان الأنصار من فرج الله )) تأويل مختلف الحديث 212.
وتحدث عن التعريض وعدّه متفرعاً عنها فقال : (( ومن هذا الباب : التعريض والعرب تستعمله في كلامها كثيراً فتبلغ إرادتها بوجه هو ألطف وأحسن من الكشف والتصريح ويعيبون الرجل إذا كان يكاشف في كل شيء , وقد جعله الله في خطبة النساء في عهدتهن جائزا فقال : (( ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء )) ولم يجز التصريح .
ومن أمثلة التعريض ما جاء في القر آن منه قال ابن قتيبة : (( … فمن ذلك ما خبر الله سبحانه من نبأ الخصم , قال تعالى : (( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب )) إنما هو مثل ضربه الله سبحانه له ونبهه على خطيئته به وورّى عن النساء بذكر النعاج . تأويل مشكل القرآن 266.
ويذكر التعريض على لسان إبراهيم – عليه السلام – وذلك ما روي في الحديث من قوله حين خاف على نفسه وامرأته : { إنها أختي } لأن بني آدم يرجعون إلى أبوين فيهم إخوة ولأن المؤمنين إخوة .
ومن التعريض قوله : (( إني سقيم )) أي : سأسقم لأن من كتب عليه الموت فلابد من أن يسقم ولهذا قيل : { إن في المعاريض عن الكذب لمندوحة } .
وتعرض ابن قتيبة لبعض المحسنات المعنوية واللفظية فذكر الإفراط في الصفة وكان القدماء يطلقون على المبالغة { الإفراط في الصفة } قال بعد إيراده بيتاً لا مرئ القيس :
ولا مثل يوم في قدار ظللته *** كأني وأصحابي على قرن أعفرا
أي : كأنا من القلق على قرن ظبي , فنحن لا نستقر ولا نكن . وساق قول بشار فقال وما أفرط فيه , قوله :
إذا ما غضبنا غضبة مضرية *** هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
وقال عنترة : ومن إفراطه قوله :
وأنا المنية في المواطن كلها *** والطعن مني سابق الآجال
وكذلك عرض ابن قتيبة للتوجيه , ولكنه لم يسمه باسمه كما اصطلح عليه البلاغيون المتأخرون فقد قال في قوله تعالى : (( لا تقولوا راعنا )) من رعيت الرجل إذا تأملته وتعرفت أحواله يقال : أرعني سمعك .
ومن الفنون التي ذكرها ابن قتيبة : تأكيد المدح بما يشبه الذم فنراه يضرب أمثلة لتأكيد المدح بما يشبه الذم في تفسير قوله تعالى : (( وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله )) أي : ليس ينقمون شيئاً ولا يعرفون من الله إلا الصنيع الجميل . وكقول النابغة الذبياني :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
أي ليس فيهم عيب . الشعر والشعراء 1/ 524, وتفسير غريب القرآن 190
وذكر ابن قتيبة حسن الابتداء الذي سماه البلاغيون براعة الاستهلال , فقال في بيت أوس بن حجر :
أيتها النفس أجملي جزعاً *** إن الذي تحذرين قد وقعا
لم يبتدئ أحد مرثية بأحسن من هذا . الشعر والشعراء 1/65وقال النابغة في قصيدة مدح بها الغساسنة :
كليني لهم يا أميمة ناصب *** وليل أقاسيه بطيء الكواكب
لم يبتدئ أحد من المتقدمين بأحسن منه ولا أغرب . الشعر والشعراء 1/ 66
ذلكم ابن قتيبة تجلت لكم عظمته , وظهرت لكم قيمة كتبه , واستبان لكم من نظرتها طلاوتها ورفافة مائيتها ورصانة أسلوبها ما يزيدنا إعجاباً بها , وإعظاماً لمؤلفها …. 8 ذو القعدة 1438 هـ – 31 يوليو2017 م






