المقالات

كرواسون المقاصف.. متعة الصباح أم قنبلة سعرات؟

قراءة اجتماعية في عادات الطلاب الغذائية.

تشكل المدرسة أحد أهم الفضاءات الاجتماعية التي تنعكس فيها أنماط السلوك والتنشئة، فهي ليست مجرد مكان للتعليم الأكاديمي، بل هي بيئة لإعادة إنتاج القيم وأنماط العيش اليومية.

في المؤسسات التعليمية، لا تقتصر المدرسة على كونها حيّزًا لتلقّي المعارف الأكاديمية وحدها، بل تُشكّل فضاءً اجتماعيًّا متعدد الأبعاد، حيث تُبنى عادات الأكل والوعي الغذائي، وتتداخل فيه التأثيرات الأسرية، الثقافية، الاقتصادية، والإعلامية، والمقصف المدرسي يعد واحدًا من أبرز المواقع التي تُمارس فيها هذه التأثيرات. هذه الظاهرة ليست سطحية، بل مرتبطة بأزمة صحية حقيقية، تمتد جذورها إلى السياسات، التنشئة، والأولويات على المستوى المجتمعي.

وعند تأمل واقع المقاصف، نجد أن كثيرًا من الخيارات المطروحة أمام الطلاب تميل نحو المخبوزات السريعة والوجبات الجاهزة مثل الكرواسون والمعجنات والكيك، وهي أطعمة سهلة التناول ومحببة، لكنها مليئة بالسعرات الحرارية وفقيرة بالعناصر الغذائية. هذا النمط من الاستهلاك لا يعكس مجرد اختيارات فردية، بل هو جزء من ثقافة غذائية مجتمعية تتشكل عبر الإعلانات والتأثيرات الاستهلاكية السائدة.

* يمكن تحليل الظاهرة عبر عدة مستويات:

1. المستوى الصحي:
يشير ارتفاع معدلات السمنة بين الأطفال والمراهقين في المملكة إلى أن الوجبات المقدمة في المقاصف غالبًا لا تلبي احتياجاتهم الغذائية والنموّية. هذه الظاهرة لا تؤثر على الصحة الجسدية فحسب، بل تمتد لتؤثر على مستوى التركيز والتحصيل الدراسي، وتعزز مخاطر تراجع الثقة بالنفس، وقد تؤدي أحيانًا إلى وصم اجتماعي.

2. المستوى المؤسسي (المدرسة):
المدرسة هنا ليست مجرد ناقل للمعرفة، بل هي مؤسسة اجتماعية تسهم في ترسيخ أو تعديل أنماط السلوك الغذائي. إن اقتصار المقصف على وجبات تجارية عالية السعرات يكرس ثقافة غذائية استهلاكية غير صحية.
كما أن الطفولة والمراهقة هما فترات حرجة لبناء العادات. ما يتعلّمه الطلّاب في المدرسة من أكل، ذوق، سلوك يُرافقهم مدى الحياة. إن كان المقصف يقدم خيارات صحّية، يدعمها تعليم غذائي، فإنه يُمكّن التغيير طويل الأمد.

3. المستوى الاقتصادي:
يشكل المصروف المدرسي وفروق تكلفة الأغذية الصحية مقارنة بالوجبات السريعة تحديًا كبيرًا. فالمقاصف التي تسعى للالتزام بالمعايير الصحية قد تواجه صعوبة في التطبيق نتيجة ارتفاع التكاليف، أو مقاومة من الطلاب وأولياء الأمور إذا كانت الخيارات الصحية أغلى أو تم حظر بعض الأطعمة ذات الطلب العالي.

4.المستوى السياساتي والمؤسسي:
وجود اللوائح من وزارة التعليم والصحة يُظهر وعيًا بسيطًا، لكن التطبيق والمراقبة هما التحدي الأكبر. كما أن الوجبة المدرسية يجب أن تُعتبر جزءًا من السياسة الوطنية للصحة العامة، بالتنسيق مع برامج التوعية وتثقيف الغذاء في المناهج، وليس فقط لوائح المقاصف.
انتشار الأطعمة السريعة في المدارس يعكس هيمنة ثقافة استهلاكية معولمة، حيث أصبح الكرواسون والوجبات الجاهزة رمزًا للسرعة والحداثة، في مقابل تراجع الأطعمة المحلية الصحية التي كانت حاضرة في الأجيال السابقة.

5.المستوى التنشئي:
غالبًا ما يعكس اختيار الطالب لما يشتريه من المقصف عادات غذائية تعود إلى الأسرة، حيث يعتاد الطفل على المأكولات السريعة والمعلبات، ما يجعلها خياره الأول في المدرسة.

من هنا تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في دور المقاصف، ليس باعتبارها أماكن بيع، بل باعتبارها أدوات للتنشئة الاجتماعية والصحية. فإذا ما قدمت هذه المقاصف وجبات متوازنة – مثل الفواكه، العصائر الطبيعية، الخضروات، المكسرات – فإنها ستسهم في تشكيل جيل أكثر وعيًا بصحته، وأكثر قدرة على بناء علاقة رشيدة مع الغذاء.

إن معالجة هذا الملف تتطلب تكاملًا بين الأسرة والمدرسة والسياسات التعليمية والصحية، بحيث لا يُترك الطالب فريسة لإغراءات الوجبات السريعة، بل يجد أمامه بيئة غذائية آمنة تدعم نموه الجسدي والعقلي والاجتماعي.

توصيات ضمنية من البيانات لتحسين الواقع:

• ضبط الوجبة الواحدة في المقصف لتكون ضمن حدود السعرات المسموح بها وفق الفئة العمرية، تشمل توازنًا بين البروتين، الكربوهيدرات، الدهون الصحية، مع الحد من السكر والصوديوم والدهون المشّبعة.
• تقليل الأطعمة المصنعة والجاهزة واستبدالها بخيارات محلية صحية متنقّلة.
• إدخال تعليم غذائي في المناهج يُعلّم الطلاب مهارات التمييز بين الأطعمة، قراءة الملصقات، المفهوم الغذائي ليس فقط كـ”ذوق” بل كمسؤولية صحية.
• إشراك الأسرة في توعية الغذاء، لأن العادات المكتسبة في البيت تؤثر على اختيارات الطالب بالمقصف.
• تعزيز سياسات مراقبة المقاصف واللوائح الصحية، مع تطبيق فعلي وتقييم دوري؛ مثلاً التأكّد من أن القطع الغذائية في المقصف لا تتعدى سقف السعرات / الدهون / السكر المحددة.

وفي النهاية الكرواسون والمعجنات في المقاصف قد تبدو متعة صباحية بسيطة، لكنها في الحقيقة قنبلة سعرات خفية تؤثر على صحة الطلاب وتركيزهم ومهاراتهم الذهنية. ما يأكله الطالب اليوم يشكل عاداته غدًا، وما يُقدّم له في المقصف يعكس ثقافة المجتمع واهتمامه بصحة الأجيال القادمة. إذا أردنا أن يكون الصباح مليئًا بالطاقة الحقيقية والعقل النشيط، فلا يكفي تقديم وجبة سريعة لذيذة فقط، بل علينا إعادة التفكير في المقصف كمساحة للتغذية الصحية، للوعي الغذائي، ولصناعة جيل واعٍ وقادر على الإنجاز، إن المقصف المدرسي ليس مجرد “ركن بيع”، بل هو مرآة لثقافتنا الغذائية، ومؤشر على مدى إدراكنا للعلاقة بين الغذاء والتنشئة، وبين السعرات والصحة، وبين الثقافة والاستهلاك.

وإذا أردنا جيلاً واعيًا قادرًا على صناعة المستقبل، فعلينا أن نعيد النظر فيما نقدمه لهم اليوم داخل جدران المدرسة.

د. بشرى الكلثم

دكتوراه علم اجتماع مدربه ومستشاره أسرية

‫2 تعليقات

  1. كلام في غاية الأهمية وخصوصا أنا معلم وأشوف أكل الطلاب كروسان ويحط حشوة شبس يفضل أكل أشياء مفيدة مثل البيض والكبدة والخضروات والفواكه

  2. مقالك ما شاء اللّٰه تحفة فكرية مكتوب بلغة سلسة وأسلوب عميق يجمع بين التحليل والدقة فيه ثراء في الأفكار وتسلسل منطقي يخلي القارئ يعيش مع كل مستوى من ستويات التحليل وكأنه يشاهد صورة كاملة للمشهد طريقة ربطك بين الصحة، المدرسة الاقتصاد والسياسات تعكس نضج في الطرح ورؤية واعية جدًا والأجمل إنك ما اكتفيتِ بالعرض بل ختمتِ بتوصيات عملية وملهمة، وهذا يعطي المقال قوة وأثر، كأنه رسالة تغيير حقيقية

اترك رداً على تركي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى