المقالات

من الدعوة إلى التشريع: “دليل المهن الإعلامية”.. التزام يُقاس ويُرصد ويُنفذ

في مطلع هذا العام، خطت الهيئة العامة لتنظيم الإعلام خطوة محورية بإطلاق «دليل المهن الإعلامية» بوصفه إطارًا تنظيميًا يعرّف المهن والمهارات والمسؤوليات؛ فتتعزز الحوكمة من لحظة القيد وحتى الممارسة اليومية، هذه الخطوة بتوقيتها ومضمونها جاءت استجابة عملية لما دعوت إليه في تقرير نشرته صحيفة مكة الإلكترونية ضمن عددها الصادر بتاريخ 11/ 6/ 2020م لتفعيل التشريعات والمؤشرات المهنية، وتمكين بيوت الخبرة المدنية لإصدار تقارير دورية، وإنشاء إدارات مختصة لمتابعة الأداء وتقويمه في البيئة الرقمية، وهكذا انتقلنا من “التوصية” إلى “الأداة التنظيمية” التي تُقاس وتُرصد عبر مؤشرات واضحة.
لا يأتي “الدليل” معزولًا، بل يستند إلى نظام الإعلام المرئي والمسموع ولوائحه، ويضم توصيفات دقيقة للمهن وضوابط مزاولتها وميثاقًا لأخلاقيات العمل، وبذلك ينهي فوضى كبيرة، ويفتح الباب لبرامج اعتماد وتطوير مهني حقيقي مستمر، وترخيص متدرّج لبعض الأدوار الحساسة، إنها نقلة من “عموميات الجودة” إلى “معايير قابلة للقياس” تضع المؤسسات والأفراد أمام التزام مهني محدد الأدوات والمعايير.
ومع هذا التأسيس، لم تكتف الهيئة بالمبادئ العامة، بل ترجمتها إلى محظورات سلوكية واضحة تُشكل مرجعًا يوميًا للممارسين وصُناع المحتوى، من أبرزها:
• منع التنمر أو الاستهزاء بالآخرين.
• منع كشف خصوصيات الأسرة وخلافاتها أو التعرض للحياة الخاصة.
• منع استغلال الأطفال أو فئات العمالة بأي صورة.
• منع نشر المعلومات المضللة أو غير الصحيحة.
• منع الألفاظ البذيئة والإساءة.
• منع إثارة النعارات القبلية أو العنصرية أو الطائفية.
• منع أي محتوى يسيء للقيم الاجتماعية والوطنية.
كما نصّت على ضوابط للباس في الظهور الإعلامي والمحتوى المصوَّر، وكل تلك المحددات العملية تُغلق المساحات الرمادية وتُسهل على غرف الأخبار وصناع المحتوى ضبط الجودة والامتثال قبل النشر.
وعلى هذا الأساس، يلوح أفقٌ تشريعي قريب يركّز على حوكمة السلوك التحريري والرقمي عبر أربع جوانب رئيسة:
1. إلزامية التسجيل والتدريب لفئات محددة (رؤساء التحرير، محررو العاجل، مقدمو المحتوى الإخباري)، وربط استدامة القيد بساعات تدريب سنوية ومؤشرات أداء (الدقة، وتنوع المصادر، وسرعة التصحيح، والإفصاح عن تضارب المصالح).
2. إعلان المحتوى المُنتج أو المُعزز بالذكاء الاصطناعي وضبط استخدام الصور المعدلة.
3. فصل واضح بين المواد التحريرية والإعلانية وإلزام الإفصاح عن المحتوى المدفوع والرعائي.
4. رقابة امتثال: وحدات امتثال تُراجع المواد قبل النشر وبعده، وتمكين بيوت خبرة مدنية لإصدار تقارير مهنية دورية تعلن للعموم.
وبالتوازي، يُعاد ترسيم الحدود في اليوميات المهنية بين ما هو مسموح أو مطلوب وما هو ممنوع:
المسموح: تحقيقات وآراء مهنية موثقة تُراعي الإنصاف والإسناد.
المطلوب: سياسات تصحيح منشورة، إسناد دقيق للمعلومات، إفصاحات تضارب المصالح، ووسم المحتوى الإعلاني أو المحتوى المصنوع بواسطة الذكاء الاصطناعي.
الممنوع: التضليل المتعمّد، السرقات الصحفية، انتهاك الخصوصية والتلصص الرقمي، التحريض وخطاب الكراهية، والإعلانات المتخفية بثوب تحريري.
بهذا الترابط بين الرؤية العلمية التي طُرحت في التقرير والمبادرة التنظيمية الراهنة وما استتبعته من قوائم محظورات، يواصل الإعلام السعودي انتقاله من “النية الحسنة” إلى “المعيار الملزم”؛ فتغدو المهنية ثقافة مؤسسية قابلة للقياس والمساءلة وذلك هو الأساس الحقيقي لاستدامة الثقة العامة ورفعة الممارسة.

أ. د. محمد بن سليمان الصبيحي

الممثل الإعلامي للمملكة في التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى