المقالات

تأبين للوالد الراحل محمد آل شيبان

لا يرحل العظماء كما يرحل الآخرون، ولا تنطوي سيرتهم في سطورٍ عابرة، بل تبقى معلّقة في ذاكرة الأرض والسماء، شاهدةً على حياة كانت أثقل من الذهب وأصفى من الماء.
((رحل أبي))… لكنه لم يكن مجرد أبٍ حنون أو رجلٍ صالح، بل كان مدرسةً تمشي على الأرض، ملكاً في تواضعه، علَماً في هيبته، وسنداً في إنسانيته.

أبي، أنت لم تكن مجرد رجل في حياتنا.
كنت الأب الذي يُمسك البيت كله بكلمة.
كنت الملك الذي يوزن العدل بميزان الحق.
كنت العلم الذي يُضيء للأجيال طريقها.
كنت المثال الذي سنحكي عنه لأولادنا وأحفادنا، وسنقول: “كان هنا رجل، لم يكن مثل غيره من الرجال”.
أنت يا أبي لم تتركنا فقراء، بل تركتنا أغنياء بما ورّثتنا من كرامة وعزة وصبر .

رحلت يا أبي.
لكن صوتك ما زال يرنّ في أذن كل من سمع نصيحةً منك.
اسمك كان و ما زال يفتح الأبواب، لأنك كنت رجلًا لا يتكرر.
كل من عرفك أصبح شاهدًا على أن الملوك الحقيقيين يرحلون بصمت، لكن ذكراهم تزلزل الأرض

أبي، كنت مرآةً نرى فيها أنفسنا.
حين كنا نرتكب خطأً، لم تكن توبّخنا بالكلام، بل كنت تضع أمامنا صمتك فنشعر بالخجل.
حين كنا ننجح، كنت تفرح بنا بصوتك المنخفض الذي يغني أكثر من التصفيق.
كنت مرآةً لا تكذب: تُظهر لنا ضعفنا وقوتنا، أخطاءنا وصوابنا، لكن بوجه أبٍ يفيض حنانًا
كل من اقترب منه كان يرى في عينيه معنى الأب، ومعنى القائد، ومعنى الإنسان.
أبي لم يكن مجرد رجلٍ عابر في التاريخ، كان ميزاناً للكرم، وأيقونةً للتواضع، يكفي أنه ملك قلوب الناس وترك فيهم أثراً لا يُمحى.

كان حين يمد يده للمصافحة يبدأ بالصغير قبل الكبير، وكأنه يعلن أن القلوب تُقاس بالنقاء لا بالأعمار ولا بالمناصب. عرفه الأطفال بضحكته الهادئة، والكبار بعقله المدبر، والقبيلة بصلابته وحكمته معاً. عاش مُربياً قبل أن يكون مديراً، ومديراً قبل أن يكون قائداً، الأجيال التي تخرّجت تحت قيادتك لم ترَ فيك مسؤولًا عاديًا، بل أبًا يفتح لهم الأبواب، ويزرع فيهم الرجولة و الصبر والعلم.

حتى تولّى موقع النائب لقبيلته في مدينة سلطان – حجلا لمدة تقارب 23 سنة ،امتداداً لإرث حمله أهله وأجداده لقرنٍ كامل، فكان خير خلف لخير سلف.
حين حملت منصب نائب القبيلة، لم يكن المنصب تذكرة فخر، بل كان تكليفًا.
كنت تدير الخلافات بميزان من ذهب، وتجمع القلوب بيدٍ من حزم.
كنت ترى أن القبيلة ليست أسماءً تتوارث المناصب، بل قيمًا تُحمَل عبر القرون.
لقد حملت هذا الإرث كما يُحمل السيف: بثبات، بجدارة، بوقار ، كان يجلس مع الشيخ فيسمع كأنه حفيد، ويجالس الطفل فينصت كأنه صديق.
كل جدار في بيتك يا أبي يشهد.
الجدران التي حملت صدى صوتك في الصباحات الباكرة،
و المجالس التي ضحكت فيها مع الصغير قبل الكبير، والتي كانت تفيض كرمًا حتى ظنّ الناس أن الكرم خلق معك.
الأبواب التي فُتحت للضيف دون سؤال عن اسمه أو نسبه، لأنك كنت ترى أن الضيف لا يُسأل بل يُكرم.
حتى الممرات الضيقة بين البيوت في حجلا، كانت تعرف خطواتك، وتنتظر مرورك لتتنفس رائحة الهيبة و الأمان.

لم تحمل تاجًا من ذهب، ولا جلست على كرسي مطعّم بالجواهر، لكنك كنت ملكًا بالحكمة.
أنت يا أبي كنت تزن الكلمة كأنها قَسَم، وتزن الموقف كأنه ميزان عدل سماوي.
لم تُفرّق بين ضعيف وقوي، لم ترفع من شأن غني على فقير، بل كنت ترى أن العظمة أن تعطي من لا يملك، وأن تواسي من لا يجد
كان المنصب عندك وسيلةً لا غاية، كان شرف الخدمة أهم من بريق الكرسي

 

أثر الملوك لا يزول.
أنت يا أبي تركت بصمة في كل قلب عرفك.
أطفال كبروا وصاروا رجالًا يذكرونك.
رجال صاروا شيوخًا ما زالوا يتحدثون عنك.
قبائل بأكملها تتداول اسمك كأنه مَثل.
لقد صرت ذكرى حيّة، لا تموت، بل تكبر مع الأيام

لكن الألقاب لم تُغره يوماً، ظلّ الإنسان البسيط الذي يعرف قيمة الإنسان . وعندما ابتُلي بالمرض سبع سنوات، صبر صبر الملوك العظام. لم يشكُ، لم يتذمّر، بل واجه الألم كما يواجه المحاربون العاصفة: بصمتٍ مهيب. رحل بسلام، كأنه اختار أن يغادر الدنيا كما عاشها: بلا إزعاج، بلا أذى، بهيبةٍ تليق برجلٍ كُتبت سيرته في القلوب قبل الكتب . لم تُظهر ألماً، لم تُطلق أنيناً، لم تُرهق أحداً بسؤال أو طلب.
كنت صامتاً، لكن صمتك كان أقوى من خطب الخطباء.
كنت تتألم، لكن ألمك كان كريماً، لا يفضح ضعفاً ولا يجرّح كبرياء.
كنت تعلم أن المرض ليس عاراً، بل هو امتحان، وأن الصبر على البلاء تاجٌ لا يراه إلا من أضاء الله قلبه
المرض يا أبي لم يضعفك، بل فضح غيرك.
كشف لنا أن الوفاء عملة نادرة، وأن القلوب التي كانت تبتسم في وجهك كانت جوفاء.
لقد أرانا الله في مرضك من يحبك بحق ومن كان يستغل وهجك و مكانتك .
لقد خسروا اختبار الوفاء، بينما ربحتَ أنت اختبار الرجولة والصبر.
و ها هنا ظهرت الحقيقة عارية
الذين كانوا يركعون لهيبتك في المنصب، انكشفوا جبناء أمام مرضك و رحيلك ،
الذين كانوا يزحفون بألسنتهم ليمسحوا غبار حذائك في أيام عزّك (دون أن تطلب)، اختفوا كأن الأرض ابتلعتهم.
لم يجرؤوا أن يقتربوا من بيتك، كأن المرض وصمة عليهم، أو كأن الكرامة التي ادّعوها لا تليق بوقت الصدق.
يا أبي… رأيت بأم عيني أن المناصب ليست إلا غربالاً يفصل الذهب عن التراب

آه يا أبي، كم كان النفاق حولك صاخباً حين كنت في عرش منصبك.
كانوا يتسابقون إلى بابك كأنما يلهثون خلف ظلّك، يبتسمون بوجوهٍ لامعة ويحنون رؤوسهم حتى الأرض، يمدحونك بما لم تقله الألسنة يوماً عن الملوك.
كانوا يزيّنون أحاديثهم بالولاء، ويُظهرون الإخلاص في كل كلمة، يركضون وراء رضاك كأن حياتهم معلّقة بكلمة تخرج من فمك، (كانوا لايقيمون مناسبة ولاعزاء )من غير وجودك المهيب القدير لأنك الوجه الواحد و الواجهة المثقفة المتعلمة الفارقة التي لن تتكرر في حياتنا وحياتهم
لكن الحقيقة كانت أخبث: كانوا يعيشون على فتات وجودك، يتغذّون من وهجك، كالغربان التي تحوم حول الضوء لا لأنها تحبه، بل لأنها تبحث عن بقايا تُسقطها الريح
‏حتى إن أذاهم وفسادهم لم يقتصر علينا فقط بل على القبيلة بأكملها وتفرقة أفرادها .
لكننا نحن لم نخنك.
زوجتك أبناؤك وبناتك حملوا إرثك، وقفوا حولك، لم يتركوك لحظة.
لقد تعلمنا منك أن الكرامة لا تُشترى، وأن الدم لا يُباع، وأن العائلة جدارٌ لا يسقط.
كنا حولك كما كنت حولنا في صغرنا وكبرنا: حارسًا، سندًا، قدوةً.
لقد ردّ الله الوفاء إلينا، فصرنا نحن درعك الأخير، ونحن نفتخر بذلك إلى الأبد
كنتَ تعرف أن العظمة لا تُقاس بارتفاع الصوت، بل بقدرة الصمت على أن يزلزل القلوب.
كنت تصمت فتخجل الأقنعة.
كنت تصمت فيفهم الأوفياء أنك تعطيهم درسًا في الصبر.
كنت تصمت فيرتعد المنافقون لأن صمتك كان أقوى من كل ضجيجهم.
و الخيانة لا تهزم العظماء.
أنت واجهت كل ذلك بصمت المحاربين.
لم تذكر أسماءهم، لم تفضحهم، لم تقل كلمة تُشينهم، تركتهم يسقطون وحدهم في بئر نفاقهم.
كان صبرك أقوى من حضورهم، وكرامتك أعلى من وجوههم.
كنت تقول بصمتك: “ليأخذوا ما شاءوا من دنياهم، أما أنا فأخذت نصيبي من رضا الله”.
وهكذا انتصرت، لا عليهم وحدهم، بل على المرض أيضًا.
أكتب الآن بقلمٍ ليس قلمي، بل قلم الحق.
أكتب كي يعلم الخونة أن التاريخ لن يغفر لهم.
لقد سقطت أقنعتهم، وظهرت وجوههم الحقيقية: وجوه خاوية، أرواح هزيلة، نفوسٌ لا تساوي جناح بعوضة.
لن أكتب أسماءهم، لأن ذكرك وحدك يكفي لإذلالهم.
أنت الذاكرة، وهم النسيان.
أنت العظمة، وهم الهوان
قد ينسى البعض فضله، وقد يُظهر المنافقون وجوههم الحقيقية بعد رحيله، لكن التاريخ لا ينسى، والسماء لا تنسى، ونحن أبناؤه لا ننسى.
لم ولن تعد المجالس كما كانت، لم ولن تعد الأحاديث كما كانت، لن تعد الأيام كما كانت.
كل مكان كنت تجلس فيه صار فارغًا حتى لو امتلأ بالناس.
كل كلمة كنت تقولها صارت يتيمة حتى لو تكررت على ألسنة الجميع.
حين جاء يومك الأخير يا أبي، لم يكن رحيلك هادئًا كما ظننا، بل كان زلزالًا في قلوبنا و قلوب الناس.
في لحظة واحدة، امتلأت الطرقات برجال ونساء وصغار، كلهم يسيرون نحو بيتك، نحو المسجد، نحو المقبرة.
الطرقات انسدت من كثرة الأقدام، ازدحمت السيارات حتى خنقت الشوارع، وكأن المدينة بأكملها خرجت تودّعك.
كان المشهد يشبه سيول الجبال حين تجتمع فجأة، هدير لا يتوقف، مدّ بشريّ لا يُحصى.
في ساحة الصلاة، امتدت الصفوف إلى ما وراء النظر.
لم يعد المسجد يسعهم، فامتلأت الساحات الخارجية، وارتفعت الأصوات بالتكبير حتى شعرنا أن السماء نفسها تهتز.
كل تكبيرة كانت تحمل دمعة، وكل دعاء كان يخرج من قلبٍ يعرف أن الملوك لا يموتون إلا مرة واحدة.
كان الرجال يتدافعون ليحملوا نعشك، كأن كل واحد منهم يريد أن ينال شرف حمله، كأن جسدك الطاهر صار أمانة يتسابقون لحملها.
وعند المقبرة… يا للمشهد العظيم.
لم تكن حفرة صغيرة تحتضن جسدًا، بل كانت الأرض تفتح صدرها لتستقبل رجلًا بحجم التاريخ.
وقف الناس صفوفًا متلاصقة، بعضهم لم يجد مكانًا ليقترب، فاكتفى أن يرفع يديه من بعيد، باكيًا، متضرعًا، راجيًا أن يكتب الله له أجر المشاركة.
بعضهم لم يكن من أهلك، ولا من قبيلتك، ولا من مدينتك، بل جاء لأنه سمع عنك، عن خُلقك، عن صبرك، فجاء ليودّعك كما يودّع الابن أباه.
وفي أيام العزاء… لم تنقطع الجموع.
الطرق المؤدية إلى بيتك ظلت مزدحمة كأنها مواكب لا تنتهي.
الوجوه جاءت من كل مكان: من يعرفك ومن لا يعرفك، من كان قريبًا ومن كان بعيدًا.
بعضهم جاء باكيًا، وبعضهم جاء صامتًا، وبعضهم جاء مذهولًا من هول المشهد.
لقد تحوّل بيتك إلى بحرٍ من البشر، تتدفّق إليه الجموع كما لو أن الأرض كلّها اتفقت أن تُعلن حزنها.
يا أبي… لقد خذلك المنافقون حين مرضت، لكن الله جعل الأرض تشهد على حقيقتك يوم رحلت.
من تخلّى عنك في المرض، سقط من المشهد، لكن الوفاء جاءك من كل صوبٍ كالسيل العارم، يحيط بك من كل الجهات.
لقد ودّعك الناس كما تُودّع الملوك: بجلال، بدموع، بجموع لا تُعد ولا تُحصى.
كل حجر يعرف خطاك، كل غصن يعرف ظلك، كل نسمة تعرف عطرك.
رحلت جسدًا، لكنك باقٍ كأنك لم ترحل
رسالتك لنا واضحة:
أن نكون أوفياء حتى حين يخون الناس.
أن نصبر حتى حين يضعف الجسد.
أن نُبقي رؤوسنا مرفوعة حتى لو انحنت الدنيا كلها.
أن نعيش بكرامة، ونموت بسلام.
وهذا العهد باقٍ ما بقينا.

و ما أبهى رحيلك !
لم تترك الدنيا بضجيج المستشفيات، ولا بأجهزة تصرخ بجانبك.
رحلت بصمت، رحلت بسلام، رحلت وكأنك تهمس للأرض: “لقد أديتُ ما عليّ، والآن حان وقت العودة”.
كان موتك امتدادًا لحياتك: عظيمًا في تواضعه، مهيبًا في بساطته، خالدًا في أثره.
لم تُثقل أحدًا بوصيةٍ طويلة، لأنك تركت وصاياك في كل يومٍ من أيام حياتك.
لم تُشغل أحدًا بصرخات وجع، لأنك خبأت الألم عن العيون، وحملت صليب المرض بقوة حتى النهاية
فقد هيأنا الله للفقد منذ سبع سنوات ،كنا نعيش الحِداد الأبيض منذ ساعة معرفة تشخيصك في خوف متواتر وقلق دائم ، لأن الله عليما بأن فقدك بشكل مفاجىء لن يكون أمرا بسيطا ولا عاديًا بالنسبة لنا ،كأب رائع حنون مثلك أو كرجل حقيقيا ورمزا تاريخيا بمثابتك . بل سيكون نهاية لكل شيء حي فينا وعلينا ، فالحمدلله على أقدارك ورحمتك يالله

يا أبي…
لقد رحلتَ بصمت، لكنك تركت وراءك ضجيجًا من الهيبة لن يخفت.
لقد متَّ بسلام، لكنك تركت قلوبنا معلّقة بك إلى الأبد.
لقد غبت عن عيوننا، لكنك صرت حاضرًا في كل لحظة، في كل كلمة، في كل دعاء.
سلام عليك يوم وُلدت، ويوم قُدت، ويوم رحلت، ويوم تُبعث حيًّا .

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. جميلة جدا تسلم اناملك تكلمتي بما في قلوبنا والله
    صحيح سلام عليك يوم ولدت ويوم قدت ويوم رحلت ويوم تبعث حيا

  2. رحمه الله رحمة واسعه واسكنه الله فسيح جناته وغفر الله ذنبه وتجاوز عنه رجل الكرم والشهامه والمهمات الصعبه
    ركن من اركان عسير وجبل من جبالها رجل لن يتكرر إلا بأمر الله رجل الطيبه والتسامح والحكمه والقوة (ضايقوه واتعبوه من توليه للمنصب حسدا من عند انفسهم يتولاهم الله بأمره )

  3. رحمة الله على ذاك الوجه الطيب الطاهر ،وجزاه الله عن كل صلة رحم وصلها لوالدتنا وكل كلمة طيبة خصني بها خير الجزاء ،وجعل الله ذلك في موازين حسناته وضاعفه له إلى يوم يبعثون ،حقا تعجز النساء عن انجاب مثله 💔

اترك رداً على ريمي 🌺 إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى