يُعرَّف البحث العلمي بأنه مجموعة من الأنشطة المنهجية المنظمة، تهدف إلى توسيع المعارف الإنسانية النظرية والتطبيقية، وتطوير تقنيات ومنتجات وخدمات جديدة. وهو يشمل جمع البيانات وتحليلها والتجريب والابتكار. هذه العملية ليست مجرد نشاط أكاديمي، بل هي العمود الفقري لأي تنمية شاملة، إذ يتيح البحث العلمي للاقتصاد أن يتطور عبر التكنولوجيا، ويعزز منظومات الصحة والتعليم، ويمكّن الدول من اتخاذ قرارات مبنية على أدلة لا على افتراضات. كما يمنحها القدرة على الاعتماد على الذات في مجالات حيوية مثل الغذاء والطاقة والصناعة، بما فيها الصناعات الدفاعية والعسكرية.
جذور تاريخية ودروس من الماضي
منذ الحضارات القديمة، أدرك الإنسان أهمية البحث؛ فقد برع علماء المصريين والبابليين والهنود والصينيين في دراسة الفلك والرياضيات والطب والهندسة. لكن البحث العلمي بمفهومه الحديث نشأ في أوروبا مع عصر التنوير (القرنين السابع عشر والثامن عشر)، حين تبلورت أسس المنهج العلمي على يد مفكرين مثل ديكارت ونيوتن وغاليليو. ومع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، تحوّل البحث إلى دعامة أساسية للتطور الصناعي والتقني. وفي القرن العشرين، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أدركت القوى الكبرى أن الاستثمار الكثيف في البحث العلمي، سواء في المجالات المدنية أو العسكرية، هو مفتاح التفوق الصناعي والاقتصادي والسياسي، وهو ما رسّخ مكانة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق ودول أوروبا الغربية واليابان في النظام العالمي.
البحث العلمي في زمن الاقتصاد المعرفي
اليوم، وفي عصر تتسارع فيه ثورات التكنولوجيا والمعلومات، أصبح البحث العلمي الركيزة الأهم لنهضة الشعوب وضمان سيادتها. فالدول التي تستثمر في عقول علمائها ومختبراتها تتميز بقوة اقتصادية وعسكرية واجتماعية، بينما تتراجع تلك التي تكتفي بالاستهلاك إلى هامش الخريطة العالمية، رهينة لتقنيات الآخرين وقراراتهم. إن البحث العلمي ليس ترفًا أكاديميًا، بل مسار استراتيجي يربط المختبرات ومراكز الأبحاث بمكانة الدول على الساحة الدولية. فنتائج الأبحاث تتحول إلى ابتكارات وصناعات وتقنيات استراتيجية، تمنح الدول استقلالية القرار وقدرتها على مواجهة الأزمات وتحقيق التنمية المستدامة.
مؤشرات عالمية وعربية
تُظهر تقارير منظمة اليونسكو أن حجم الإنفاق العالمي على البحث والتطوير يتجاوز 1.7 تريليون دولار أمريكي سنويًا. وفي تقرير مؤشر الابتكار العالمي 2023، تصدرت الولايات المتحدة (حوالي 784 مليار دولار) والصين (723 مليار دولار) قائمة الإنفاق، تليهما اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة. أما من حيث نسبة الإنفاق إلى الناتج المحلي الإجمالي، فتتقدم إسرائيل وكوريا الجنوبية والسويد واليابان، حيث تصل النسبة في بعضها إلى أكثر من 4%.
وعلى المستوى العربي، ما زال الإنفاق بعيدًا عن المتوسط العالمي (قرابة 2%). معظم الدول العربية لا تتجاوز نسبتها 1% من الناتج المحلي، وإن كانت الإمارات وقطر والسعودية قد بدأت تتصدر المنطقة في الاستثمار بهذا المجال.
كلفة الإهمال
الدول التي تهمل البحث العلمي تدفع ثمنًا باهظًا:
• اقتصاديًا: تبقى صناعاتها ضعيفة، تعتمد على استيراد التكنولوجيا، وتفقد فرص خلق وظائف نوعية.
• اجتماعيًا: تتأخر الحلول للمشاكل الصحية والبيئية والتعليمية المحلية، مما يؤثر سلبًا على جودة الحياة.
• علميًا: ضعف البنية التحتية للبحث يؤدي إلى تراجع النشر العلمي وهجرة الكفاءات.
• عسكريًا واستراتيجيًا: غياب البحث والتطوير في مجالات الدفاع يجعل الدولة تحت رحمة القوى الأخرى.
نحو استراتيجية وطنية شاملة
لردم هذه الفجوة، لا بد من إيمان عميق بأن الاستثمار في البحث العلمي قرار وجودي. ولتحقيق ذلك:
1. رفع الإنفاق إلى مستويات عالمية (2–5% من الناتج المحلي).
2. بناء بنية تحتية متقدمة من مختبرات ومراكز أبحاث وجامعات قوية.
3. تطوير رأس المال البشري من خلال التعليم، المنح الدراسية، والحوافز للباحثين.
4. تشجيع الشراكات بين الجامعات والصناعة وربط الأبحاث بحاجة السوق.
5. مكافحة هجرة العقول واستقطاب الكفاءات العربية والإسلامية.
6. وضع إطار قانوني ومؤسسي يحمي الملكية الفكرية ويضمن شفافية التمويل.
7. الاستثمار في المجالات المستقبلية كالذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والتقنية الحيوية.
8. إطلاق آلية للتقييم والمساءلة تتابع مؤشرات الأداء وتعدّل السياسات عند الحاجة.
خاتمة
البحث العلمي ليس رفاهية، بل ضرورة مصيرية لأي دولة تطمح أن تكون فاعلة على الساحة الدولية. الدولة التي تستثمر فيه تنمو اقتصاديًا، تصبح أكثر مرونة أمام الأزمات، أقوى دفاعيًا، وأفضل صحة وتعليمًا. أما الدولة التي تُهمله فستظل أسيرة التبعية، تلاحق الآخرين وتستورد العلم والتكنولوجيا دون قدرة على اتخاذ قرار مستقل.
لقد آن الأوان في المملكة العربية السعودية والعالم العربي لأن نخطو خطوة جريئة بإنشاء وزارة مستقلة للبحث العلمي، تكون مسؤولة عن صياغة السياسات الوطنية، وضمان التمويل المستدام، وربط البحث بأهداف التنمية الوطنية. فالبحث العلمي هو بالفعل وقود النهضة وضمان استقلال القرار الوطني.
• استشاري امراض الدم
مدير مركز الملك فهد للبحوث الطبية سابقا