في يومٍ خُصِّص لتكريم صُنّاع الوعي وحَمَلة النور، معلّمي الناس الخير، يقف قلمي حائرًا أمام قامتك السامية، يا والدي العزيز…
أيُّ الكلمات أختار لتفيك قدرك؟ وأيُّ الحروف تقدر أن تترجم أثرك؟
لقد كنتَ — يا والدي الغالي — من أوائل من حملوا مشعل التعليم في زمنٍ كانت فيه المدرسة حلمًا بعيد المنال، فغدا الحلم بفضل الله ثم بجهود المخلصين واقعًا مشرقًا، وشجرةً وارفة الظلال.
كان العالم يتابع بحفاوة انطلاقة التعليم المباركة في بلادنا، بسرعة تسابق الريح، إلى الحدّ الذي كانت تُفتتح فيه كل ثلاثة أيام مدرسة جديدة في المدن والقرى والأرياف، بجهود الرجال الصادقين، وبدعم الدولة السخي، وسَنّ القوانين والتشريعات التي قادت حركة التعليم أفقيًا ورأسيًا في نهضةٍ مذهلة.
وكنتَ — يا أبي — من أوائل أولئك الرجال الذين حملوا المسؤولية بإخلاصٍ لا يعرف الملل، فكنّا ونحن صغار نراك تبذل بلا منٍّ ولا ضجر، مؤمنًا بأن رسالة التعليم ساميةٌ وعظيمة، وأن الإخلاص فيها عبادة، وأن الأوطان لا ترتقي إلا بعلمها وتعليمها.
والدي العزيز…
أنت قائد فكر، ومُلهم أمة، وباني رجالٍ حملوا الرسالة من بعدك بكل فخرٍ وولاء.
بك تجسّد معنى الرسالة الحقيقية، حين جعلتَ من التعليم جسرًا نحو الحضارة، ومن الكلمة عهدًا يُورَّث ولا يُنسى.
يقول المثل: «كلُّ فتاةٍ بأبيها مُعجَبة»،
ولم أتوقف يومًا عند هذا المثل، رغم أن إعجابي بأبي لا يُحدّ، فحال أبي تجاوز حدود إعجاب ابنةٍ بأبيها إلى إنجازٍ وطنيٍّ مشرّف، وعطاءٍ تربويٍّ مثمر؛ إذ غدا رائدًا من روّاد التربية والتعليم في بلادنا، يحمل رسالةً خالدة وأثرًا لا يُنسى.
ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
قُم للمعلِّمِ وَفِّهِ التبجيلا
كادَ المعلِّمُ أن يكونَ رسولا
وإن كان شوقي قد شبّه المعلّم بالرسول، فأنت — يا والدي — أحد الذين جسّدوا هذه المعاني واقعًا لا وصفًا، وعطاءً لا قولًا.
لقد تركتَ بصمتك الذهبية المميزة، وحين نسجّل اليوم سطور الوفاء، تبقى أنت عنوانها الأول وملهمها الأبقى.
دمتَ لنا فخرًا يُروى، وسيرةً تُحكى، ونورًا لا ينطفئ.
وسيظل اسمك — بإذن الله — في ذاكرة التعليم رمزًا للعطاء، ونموذجًا للقيادة، ومعلمًا للوفاء.
والدي الرمز…
لقد تركتَ لنا، ولطلابك، ولزملائك، ولوطنك في كل محطةٍ مررت بها أثرًا حميدًا لا يُنسى، وأثرك الطيب ماثلٌ في طلابك النجباء في الباحة، وفي الطائف، وفي ينبع، وفي مكة المكرمة، وفي جدة، وتحت قبّة مجلس الشورى.
نحن وهؤلاء سنتذكّرك دائمًا كرائدٍ حمل في وجدانه رسالة التعليم، وانغمس فيها من رأسه حتى أخمص قدميه.
والدي ومعلمي…
نعدك — نحن أبناؤك — أن نسير على خطاك، ونقتفي أثرك، ونبقى أوفياء للقيم التي غرستها فينا، وللمبادئ السامية التي تربّينا عليها، وأن نكون عاملين مخلصين لوطننا وقيادتنا كما علّمتنا.
والراية ستبقى مرفوعة بإذن الله، تتناقلها الأجيال بحفاوةٍ وصدق، وسيبقى الإخلاص لها أمانةً نحملها في أعناقنا.
كل عامٍ وأنت قمّةُ العطاء، ورمزُ المجد، ومصدرُ الإلهام.
ابنتك
dr.qadh