المقالات

خمس سنوات من التحول الرقمي: حيث تتلاقى قداسة المكان مع ذكاء الزمان

أعلنت وزارة الحج والعمرة مؤخرًا أن عدد المعتمرين منذ بداية موسم العمرة وحتى نهاية شهر ربيع الأول تجاوز 3.8 ملايين معتمر من داخل المملكة وخارجها، في رقمٍ يعكس عمق الإقبال الإيماني واستمرار نجاح المنظومة الرقمية في إدارة هذا التدفق الإنساني الهائل بسلاسة ودقة. هذا الإنجاز المتجدد لا يُقاس بالأرقام وحدها، بل بما يجسده من تحولٍ نوعي في الخدمات والتقنيات التي جعلت رحلة العمرة تجربةً ميسّرة تُدار بالبيانات قبل الخطوات، وبالذكاء قبل الازدحام.
فبعد نجاح موسم حج 1446هـ الذي شهد إشادة محلية ودولية بقدرة المملكة على إدارة الملايين عبر أنظمة ذكية، يتجدد الحديث اليوم عن التحول الرقمي الذي جعل من الحج والعمرة تجربة أكثر يُسرًا وأمانًا. فالتقنية لم تعد مجرد أداة مساندة، بل أصبحت محورًا تنفيذيًا في كل تفصيل من تفاصيل رحلة الحاج والمعتمر، من إصدار التأشيرة وحتى مغادرة أرض الحرمين.
خلال خمس سنوات فقط، استطاعت المملكة أن تنتقل في رحلتها الرقمية من مشاريع متفرقة إلى منظومة متكاملة، محكومة بالبيانات ومدعومة برؤية 2030. وفي أقدس بقاع الأرض تجلّى هذا التحول بأبهى صوره في منظومة الحج والعمرة، حيث التقت القداسة مع التقنية، فأصبحت رحلة الملايين تُدار بذكاءٍ يستبق الزحام ويمنح الزائر تجربة أكثر يُسرًا وطمأنينة.
لقد تغيّرت التجربة من جذورها، ولعل منصة نسك أبرز صور هذا التحول، فهي البوابة الرسمية بإشراف وزارة الحج والعمرة، ورفيق المسلم الأول في رحلته الإيمانية على مدار العام. لم تُصمم لتكون مجرد تطبيق، بل لتكون منظومة رقمية متكاملة تُبسّط الإجراءات وتثري التجربة الدينية والثقافية بما يترجم مستهدفات رؤية السعودية 2030. مع نسك، تبدأ رحلة الحاج والمعتمر من أول خطوة حتى آخر شعيرة؛ إذ توفر إصدار التصاريح بسهولة، من العمرة إلى زيارة الروضة الشريفة، وتقدم باقات حج متكاملة تشمل النقل والإقامة والإعاشة والتأشيرات، مدعومة ببطاقة رقمية تحتوي على البيانات الشخصية والصحية لتسهيل الدخول إلى المشاعر وتنظيم الحشود. وإلى جانب ذلك، تضم نسك محتوىً إيمانيًا وخدمات روحية وثقافية واسعة، من المصحف والأذكار إلى أكثر من 140 معلمًا تاريخيًا و400 برنامج استكشافي. وقد تُوجت هذه الجهود بحصولها على المركز الأول كأكثر تطبيقات السفر تحميلًا في المملكة، وجائزة القمة العالمية WSA 2024 في فئة الثقافة والتراث، لتؤكد مكانتها كمنصة عالمية رائدة في خدمة ضيوف الرحمن.
وإلى جانب المنصة، جاءت بطاقة نسك لتعزز تجربة الحاج باعتبارها الهوية الرسمية المعتمدة في المملكة. فهي ليست مجرد بطاقة تعريفية، بل أداة شاملة تُسهّل دخول الحاج إلى المشاعر والتنقل بين مكة والمدينة، وتحمل بياناته الشخصية وعنوان سكنه وسجله الطبي إن وجد. كما تُسهم في تنظيم الحشود وإرشاد التائهين وتنظيم صعود الحافلات. وتتوافر نسختها الرقمية عبر تطبيق نسك لجميع الحجاج، لتفتح أمامهم منظومة من الخدمات تشمل التصاريح والحجوزات والخدمات الإيمانية واللوجستية التي تثري الرحلة وتضمن سهولة وانسيابية الحركة.
ثم جاءت مبادرة طريق مكة لتحدث نقلة نوعية في تجربة الوصول، إذ مكّنت الحجاج من إنهاء إجراءات الجوازات في مطارات دولهم قبل الإقلاع، ليصلوا إلى المملكة وكأنهم قادمون برحلات داخلية، فينخفض الزحام وتزداد الانسيابية.
وفي المشاعر المقدسة، كان للذكاء الاصطناعي دور حاسم، إذ أصبح جزءًا من التشغيل اليومي عبر أنظمة تقرأ الكثافات، وتتنبأ بمسارات الزحام، وتوجّه الموارد قبل تشكّل الاختناقات. وقد طوّرت سدايا نماذج بيانات لحظية ومنصة «بصير» لتحليل حركة الحشود والتنبيه المبكر لمناطق الازدحام، مما يعزز أمن ضيوف الرحمن ويضمن انسيابية التجربة. وقد حظيت هذه الجهود بإشادة محلية ودولية، ووصفتها تقارير عالمية بأنها نقلة نوعية في إدارة الحشود ورفع مستوى السلامة باستخدام أدوات تحليلية متقدمة.
وفي هذا السياق، تبرز أيضًا جهود هيئة الحكومة الرقمية التي أرست أطر الحوكمة والسياسات الموحدة للتحول الرقمي في المملكة، فوفرت بيئة تنظيمية تضمن التكامل بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص، وترسخ مبادئ الأمن السيبراني وكفاءة الأداء. وبفضل هذا الإطار التنظيمي، استطاعت الجهات التنفيذية، وفي مقدمتها سدايا ووزارة الحج والعمرة، تطوير حلول رقمية نوعية مثل « نسك» و«بصير». هذا التكامل بين التنظيم والابتكار هو ما جعل المملكة تحقق مراكز متقدمة عالميًا في مؤشرات التحول الرقمي والأمن السيبراني.
وفي لغة الأرقام، تؤكد الإحصاءات الرسمية أن موسم حج 1446هـ (2025م) استقبل أكثر من 1.67 مليون حاج، 90% منهم من خارج المملكة، ورغم حرارة الصيف وتحديات ما بعد الجائحة، حافظت المنظومة الرقمية على انسيابية التجربة في أكبر تجمع بشري بالعالم.
ولم تقتصر الإنجازات على المبادرات الحكومية الكبرى، بل امتدت لتشمل حلول تقنية وابتكارات وطنية مثل مدار، وهي منظومة سعودية متكاملة لرقمنة مهام شركات الحج، تجمع بين أنظمة التشغيل الداخلية وتطبيق يخدم الحاج مباشرة، مدعومة بالذكاء الاصطناعي. بهذا النموذج أثبتت الكفاءات المحلية أن السعودية ليست مستهلكًا للتقنية فحسب، بل منتجًا لها أيضًا.
ومع هذه المنجزات، يبرز السؤال عن الخطوة التالية. فالتحول الرقمي لم يعد مجرد رقمنة للإجراءات، بل يتهيأ لأن يكون اقتصادًا متكاملًا للحج والعمرة. وهنا تتضح ملامح الطريق: تمكين مزوّدي الخدمات عبر واجهات تقنية تفتح المجال أمام القطاع الخاص للابتكار، وتوسيع قياس الأثر ليشمل مؤشرات اقتصادية واجتماعية موسمية تعكس حجم الوظائف والإنفاق والتطوع، والاستفادة من البيانات التاريخية في نماذج تعلم مستمر تغذي التخطيط الحضري للمشاعر والمنافذ، وأخيرًا ترسيخ ثقة الحجاج عبر مواصلة تطوير تشريعات الخصوصية والشفافية التي جعلت المملكة نموذجًا عالميًا في هذا المجال.
وخلاصة القول، إن خمس سنوات من التحول الرقمي جعلت المملكة تدير أقدس بقاع الأرض برؤية متقدمة؛ رحلة تُدار من الهاتف إلى بوابة الطائرة، بيانات تتنبأ قبل تشكّل الزحام، ومنصات تُوحد التجربة وتختصر الوقت. لقد تجاوزنا مرحلة تسهيل موسم واحد، لنضع أسس نموذج عالمي مستدام يوازن بين قداسة المكان ودقة التقنية.
ولهذا توالت الإشادات الدولية، من البنك الدولي إلى القمة العالمية للجوائز الرقمية، مرورًا بتقرير الكتاب السنوي للتنافسية العالمية لعام 2025 الذي وضع المملكة في المركز الأول عالميًا في الأمن السيبراني، لتؤكد جميعها أن التحول الرقمي في المملكة لم يعد قصة محلية، بل تجربة إنسانية رائدة تُدرَّس عالميًا في إدارة الحشود وحماية البيانات وخدمة ضيوف الرحمن.
وفي ختام هذا المشهد الوطني المُلهم، تُشكر هيئة الحكومة الرقمية وسدايا ووزارة الحج والعمرة على هذا التكامل الذي جعل التقنية في خدمة القداسة، والبيانات في خدمة الإنسان، لتغدو رحلة الحاج والمعتمر تجربة تجمع بين الإيمان والإتقان، وبين الرؤية والريادة.

* باحثة وأكاديمية في مجال الذكاء الاصطناعي
* مهتمة بتمكين التقنيات الحديثة والناشئة وتعزيز حوكمة التحول لتحقيق مستهدفات رؤية 2030

أميرة عبدالله الشريف

• باحثة وأكاديمية في مجال الذكاء الاصطناعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى