المقالات

قراءة في العادات الاجتماعية العثمانية

كانت العادات الاجتماعية في الدولة العثمانية مرآةً تعكس روح حضارةٍ عرفت كيف تجعل من الأخلاق نظامًا، ومن الرحمة سلوكًا يوميًّا.

لقد امتزج في المجتمع العثماني الإيمانُ بالحياء، والكرمُ بالتكافل، حتى صار سلوك الناس لغةً من الرقي الصامت.

في مجال الضيافة، اشتهرت عادةُ تقديم فنجان القهوة مع كوب الماء للضيف؛ فإن شرب الماء أولًا عُرف أنه جائع، فيُهيأ له الطعام دون أن يُسأل أو يُحرج، وإن بدأ بالقهوة عُلم أنه شبعان، فيُكتفى بتقديمها له، في لباقةٍ رفيعةٍ لا تُثقل السؤال ولا تُزعج الذوق.

أما أبواب البيوت، فقد زُوِّدت بحلقتين مختلفتين في الصوت؛ إحداهما صغيرة تُطرق بها النساء، وأخرى أكبر تُستخدم من قبل الرجال. فإذا سمع أهل الدار صوتَ الحلقة الناعمة خرجت المرأة لاستقبال الضيفة، وإن كان الصوت غليظًا خرج الرجل لاستقبال الزائر، فحُفظ الحياء دون حرجٍ أو خلط.

حتى الزهور كانت تحمل رسائل اجتماعية؛

فالوردة الحمراء أمام البيت تعني أن فيه فتاةً في سن الزواج،

أما الوردة الصفراء فتدل على وجود مريض،

فيراعي الناس مشاعر أهل البيت دون كلامٍ أو سؤال.

ولم يخلُ الجانب الديني من البعد الإنساني؛

إذ كان المؤذنون يؤدّون الأذان بمقاماتٍ موسيقيةٍ مختلفةٍ لكل صلاة،

لا للزينة، بل ليعرف الكفيف الوقت من خلال السمع:

فمقام الصبا للفجر، والنهوند للظهر، والحجاز للعصر، والرست للمغرب، والسيكاه للعشاء،

في توازنٍ بديعٍ بين الجمال والفائدة.

ومن أجمل صور التكافل ما جسّده نظام الأوقاف الذي شمل كل جوانب الحياة: من التعليم والعلاج إلى إطعام الفقراء والعناية بالحيوانات.

فقد كان هناك وقفٌ لشراء الماء البارد وتوزيعه على المارة في الصيف، وآخر لتزويج اليتيمات أو إيواء الغرباء، حتى صار الوقف مؤسّسةً للخير تُغني عن السؤال.

وبرزت عادة «الخبز المعلّق» في المخابز؛ حيث يشتري الناس رغيفًا لأنفسهم وآخر يُترك للفقراء يأخذونه في صمتٍ يحفظ الكرامة.

وامتدت الرحمة إلى الحيوان، فبُنيت بيوتٌ صغيرةٌ للطيور على جدران المساجد، ووُضعت الأوعية للطعام والماء في الطرقات، لأن الرحمة عندهم كانت جزءًا من العمارة، لا شعارًا.

كانت تلك العادات البسيطة تجسيدًا لحضارةٍ أدركت أن رُقيَّ الأمم لا يُقاس بترفها المادي، بل بإنسانيتها وسلوكها اليومي الهادئ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى