المقالات

العقول ليست مجرد أوعية!

لا يمكن اختزال شغف التعلم في مجرد ميل عابر لاقتناء المعرفة؛ إذ يمثل طاقة داخلية لا تنضب، ومحفزا مستمرا يوجِّه الفرد لاستكشاف ما يجهل، ومحاولة تعميق فهمه، متجاوزا بذلك محددات التعليم التقليدي وأطر المراحل الأكاديمية.

إن شغف التعلم يتجسد في كونه حالة شعورية عميقة ومستدامة، تنبع من فضول فطري لا ينضب وعشق أصيل للمعرفة ذاتها. لا يرى الشغوف التعلم مجرد وسيلة لتحقيق غايات خارجية، كحيازة شهادة أو الحصول على منصب، بل يجعله متعةً قائمةً بذاتها ومقصداً سامياً.

وفي خضم هذا العصر المتسارع والمليء بالتحولات، لم يعد هذا الشغف مجرد ميزة إضافية، بل تحوّل إلى مهارة البقاء الجوهرية؛ إذ يمنح المتعلم مرونة ذهنية استثنائية وقدرة فائقة على التكيف واكتساب المهارات المستجدة التي يفرضها الإيقاع العالمي المتغير.

والأهم من ذلك أن الشغف يعد المفتاح الحقيقي للإنجاز والرضا؛ فهو يخلق حافزا ذاتيا جبارا يغذي الإبداع والابتكار، ويذيب قيود الملل والإرهاق، ليصبح منبعاً للإنجاز المهني والسعادة الشخصية.

في سبيل تنمية شغف التعلم، يجب على الفرد أن يتحول إلى متعلم نشط، فيبحث ويستكشف المعلومة بنفسه، ويربطها بالحياة الواقعية ليطبقها عملياً، مع التركيز على المواضيع التي تثير فضوله الشخصي وتحديد أهداف صغيرة ومرحلية لتجديد الحماس.

المعلمين والمعلمات بشكل خاص يقع على عاتقهم دور محوري في إيقاد هذا الشغف؛ فعليهم تبني استراتيجيات فعالة، أبرزها “التعليم القائم على الاستقصاء” عبر صياغة أسئلة عميقة تستثير ملكة التفكير لدى الطلاب. كما ينبغي لهم الحرص على تخصيص المحتوى التعليمي ليلامس اهتمامات وقدرات كل طالب على حدة. ويبقى الدور الأسمى والأكثر تأثيراً هو نقل الشغف ذاته؛ فالمعلم المتقد حباً لمادته هو المرآة الحقيقية القادرة على بث الحماس والفضول في رحلة تعلم طلابه.

في الختام، يتبين أن شغف التعلم هو الركيزة الجوهرية للنمو المستدام، وضرورة قصوى لضمان جيل يمتلك المرونة والقوة لتحويل التحديات إلى فرص إبداعية. إن مسؤوليتنا تكمن في إبقاء هذه الشعلة الداخلية متقدة، لأن التعلم حينها يصبح رحلة مثمرة لا تنقضي. وكما قال الفيلسوف الإغريقي بلوتارخ: “العقول ليست أوعية تملأ، بل نار توقد.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى