المقالات

ثقافة الكراسي

دكتوراه في التاريخ الإسلامي

مصطلح اختلف مفهومه لدى المجتمعات والثقافات وفق قناعاتها، إلا أن الإسلام وضع له ضوابط نابعة من القرآن الكريم بمعانٍ سامية تبقى براقة على المدى البعيد. وتميّزت هذه الثقافة بالمرونة والشمولية والوضوح والقبول، لاعتمادها مبدأ الشورى؛ فهي مرضية لكل النفوس والعقول بديمقراطية لا مثيل لها ولا شبيه.

وأول من طبّق هذه الثقافة المعلم والتربوي الأول سيد البشرية محمد ﷺ حينما بدأ بنفسه ووهبها للصالح العام، فكانت نقطة بداية الخلود. فقد خُلد اسمه بتغيير وتطوير وتنوير العقول والنهوض بالمجتمع على أسس عظيمة مستمدة من الله سبحانه لغرس المثل والقيم الإنسانية، أشهر مفاتيحها العدالة والمساواة. وكانت أول نواة للمجتمع الإسلامي المبارك التي صنعها الرسول ﷺ في المدينة المنورة.

وأخذت هذه النواة تشكّل خلايا في أنحاء الجزيرة حتى كوّنت أمةً إسلامية ممتدة إلى أقصى اتساع لها من سمرقند وحدود الصين شرقًا إلى جنوب غرب فرنسا غربًا خلال 99 عامًا، لتوجد تركيبة اجتماعية جديدة متبنية لأفكار سامية حلت مكان عادات وتقاليد ومعتقدات كانت سببًا في تهافت تلك الأمم وانحدارها الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

كانت خطوات النجاح متلاحقة وسريعة بقدر ما تحمله تلك الأفكار من العدالة والمساواة والأخوة والإنسانية والحرية والانقياد لمعبودٍ واحد. وترك الإسلام للناس حرية الاختيار في العقائد والإنجازات وفق تراكيبهم الفسيولوجية والعقلية والفكرية والنفسية، فقد وضع الرسول ﷺ الرجل المناسب في المكان المناسب، وانطلق الجميع في ظل دولة الإسلام ليؤدي كلٌّ دوره العظيم ويبدع فيه على الوجه الأمثل، مما أدى إلى التميز والمثابرة والإبداع وشحن طاقات الأفراد وقدراتهم لنيل المراد والمطلوب.

أدرك الرسول ﷺ بحسن إدارته قيمة اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب، فاختار من الصحابة قادةً وأمراء وأساتذة وشعراء ودعاة، كلٌّ حسب قدراته. فمنهم خالد بن الوليد القائد الفذ، وأبو محجن المحارب الشجاع، وحسان بن ثابت الشاعر المحفّز، ونعيم بن مسعود الماهر في بث الإشاعة، وآخرون حفظة للقرآن أو معلمون له. وكذلك النساء، منهن الفارسة والممرضة والشاعرة.

ومن حسن إدارة الرسول ﷺ أنه كان يستشير أصحابه رغم تلقيه الوحي من الله، ليكون قدوة لمن بعده عند انقطاع الوحي. فكلٌّ منهم قدّم دورًا عظيمًا يشهد له التاريخ ويخلده.

وعندما اتبع الرسول الكريم مبدأ الشورى من باب التعاون وإعطاء الآخرين حق المشاركة وإبداء الرأي، دعم بذلك إدارته بقوة ومنعة نابعة من الإيمان والثقة بالجماعة، لأن خطى النجاح تنبثق من العمل الجماعي.

وبعد وفاة الرسول ﷺ سار الصحابة الكرام على نهجه، فبدأ الاختيار بمشاورة المسلمين وأهل الحل والعقد لتنصيب الرجل المناسب القادر على الإدارة والمقبول لدى الغالبية، حتى يكونوا عونًا له لا عثرة في طريقه. قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾. فالكرسي هو من يبحث عن الأكفاء ويستقطبهم بكفاءتهم لا بمحاباة.

حرص الإسلام أشد الحرص على اختيار القائد المؤهل لأي إدارة كانت، صغيرة أو كبيرة، لأن النجاح في الإدارات الصغرى أساس لنجاح الإدارات الكبرى. فهي التي تغرس المبادئ والقيم والوعي الاجتماعي والفكري في المجتمع.

كما أن هذه الإدارات تحتاج إلى تجديد الدماء والخطط للحاجة إلى التطوير والتغيير بالاختيار المناسب بعيدًا عن المحسوبيات، مع تقدير العقول والكفاءات والسماح لها بالتواجد ضمن تخصصاتها وقدراتها، ليكون الرجل المناسب في المكان المناسب. فالدعم والثقة بالكفاءات هما أساس البناء، لا الإحباط والتهميش.

ولا يعني التجديد إلغاء الخبرة، بل الجمع بينهما. فالإسلام أقرّ التجديد منذ عهد النبي ﷺ؛ إذ عيّن أسامة بن زيد قائدًا للجيش وعمره لا يتجاوز السادسة عشرة، متجاوزًا كبار الصحابة، ليغرس الثقة في الشباب ويمنحهم فرصة القيادة، فكان الصحابة تحت إمرته مطيعين مؤيدين.

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعزل أعظم قائد عرفه التاريخ — خالد بن الوليد — لا لعجزٍ أو ضعف، بل لتجديد الدماء وفتح المجال لقادة جدد، وكان خالد مثالًا للطاعة والتجرد من حب المنصب.

أما الكرسي في الإسلام فليس للوجاهة ولا للرقي، بل الرقي يكون بصاحب الكرسي نفسه. فلم يُفرش للرسول ﷺ بساط ولم يتخذ كرسيًّا من ذهب أو فضة، بل جلس على سعف النخل يؤدي دوره التربوي والتوعوي، فخلّد الله سيرته وجعلها نبراسًا للأمة.

علينا اليوم أن نعيد النظر في ثقافة الكراسي، فبعض من يتقلد المناصب يفقد احترامه للآخرين ظنًّا منه أنه أصبح كيانًا مختلفًا، لكنه لا يدرك أن المنصب فرصة لصنع الأثر لا للتسلط، وأن الخلود يكون بالعمل لا بالمكانة.

فمن يفهم معنى الكرسي الحقيقي يدرك أنه أمانة ومسؤولية تُبنى بها الأجيال وتُصنع بها الأمم. أما من يراه وجاهة، فسرعان ما يندثر ذكره.

ختامًا، فإن ديننا الحنيف دين علمٍ وعمل، ومتى ما تمسكنا بمبادئه في الإدارة والتجديد والشورى والعمل الجماعي، سنصنع أجيالًا واعية تؤدي أدوارها التربوية بثقافة نوعية، تدرك أن النجاح يبدأ بخطوة، وأن المجد لا يتحقق إلا بالعمل الصادق والتجرد لله.

بقلم:

د. ميسون بنت مزكي العنزي

دكتوراه في التاريخ الإسلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى