تأتي زيارة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة في مرحلة حساسة تشهد فيها المنطقة والعالم تحولات عميقة على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية. وتمثل هذه الزيارة محطة مهمة في مسار العلاقات السعودية–الأمريكية، ليس فقط لأنها تجسد عمق الشراكة الممتدة بين البلدين منذ عقود، بل لأنها تأتي في سياق سعي المملكة إلى إعادة تشكيل موقعها في النظام الدولي، وتوسيع دائرة علاقاتها مع القوى العالمية، وتطوير اقتصادها بما يتماشى مع رؤية 2030 التي أصبحت نموذجاً للتحول الاستراتيجي في المنطقة.
على مدار العقود الماضية، كانت العلاقات بين الرياض وواشنطن ركيزة أساسية في تعزيز الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، ومصدراً للتعاون في ملفات عديدة مثل الطاقة والتجارة والدفاع. ومع صعود مكانة المملكة في الأسواق العالمية، وتزايد تأثيرها السياسي والاقتصادي، أصبحت الحاجة ملحة إلى تحديث إطار هذه الشراكة بما يتناسب مع توجهات العالم الجديد، ومتطلبات المملكة في مرحلة التحول الوطني. فالعلاقة لم تعد علاقة تقليدية تقوم على جانب واحد من المصالح، بل أصبحت شراكة متوازنة تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية والتقنية والطاقة والدفاع ، وتتطلب رؤية جديدة تضمن استدامتها وتطويرها و الانتقال بها إلى مستويات اعلى .
ومن المأمول من هذه الزيارة أن تسهم في تعزيز الحوار السياسي بين البلدين بشأن القضايا الإقليمية والدولية، خصوصاً في ظل تسارع المتغيرات التي تشهدها المنطقة. فالتحديات الأمنية، والتحولات في خريطة النفوذ الدولي، والجهود الإقليمية لخفض التوترات، كلها ملفات تحتاج إلى تنسيق عميق بين الرياض وواشنطن. وتلعب المملكة دوراً محورياً في تعزيز استقرار المنطقة، وهو دور تدرك الولايات المتحدة أهميته وتعمل على دعمه، سواء من خلال التعاون الأمني أو من خلال مبادرات التنمية الإقليمية التي تسعى المملكة إلى قيادتها في إطار رؤيتها الاستراتيجية.
على الصعيد الاقتصادي، تمثل الزيارة فرصة كبيرة لإطلاق شراكات جديدة مع الشركات الأمريكية، خصوصاً في مجالات التقنية والطاقة المتجددة والصناعة والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي. فالمملكة اليوم تسير بخطى متسارعة نحو تنويع اقتصادها، وتحرص على جذب استثمارات نوعية تسهم في نقل المعرفة وتوطين الصناعات الحديثة، وهو ما يجعل التعاون مع الولايات المتحدة مهماً بالنظر إلى تقدمها في هذه القطاعات. ومن المتوقع أن تناقش الزيارة فرص تطوير مشاريع مشتركة في مجالات المدن الذكية، وتقنيات الجيل القادم، والطاقة النظيفة، والهيدروجين الأخضر، وهي مجالات تحظى باهتمام قيادات البلدين لما لها من أثر كبير على مستقبل الاقتصاد العالمي.
كما يبرز ملف الطاقة كأحد المحاور الرئيسية للزيارة. فعلى الرغم من التحول العالمي نحو الطاقة البديلة، تظل المملكة والولايات المتحدة شريكين مهمين في استقرار أسواق الطاقة التقليدية والحديثة. وتبحث المملكة عن توسيع التعاون في مجالات الابتكار في مجال الطاقة ، وتطوير التقنيات التي تساهم في خفض الانبعاثات، وتأسيس شراكات مستقبلية في مجالات الهيدروجين والبتروكيميائيات المتقدمة. وتدرك واشنطن أهمية الدور الذي تلعبه المملكة في ضمان توازن الأسواق العالمية، وهو ما يجعل الحوار حول مستقبل الطاقة جزءاً رئيسياً من أجندة الزيارة.
ومن الجوانب المهمة أيضاً تعزيز التعاون في الصناعات الدفاعية. فالمملكة تعمل على توطين نسبة كبيرة من الصناعات العسكرية ضمن خططها الاستراتيجية، والتعاون مع الولايات المتحدة يمكن أن يسهم في تسريع هذا التوجه من خلال نقل التكنولوجيا وبناء المصانع المتقدمة وتطوير القدرات المحلية. ويعكس هذا التوجه رغبة المملكة في تطوير منظومتها الدفاعية بما يتناسب مع التحديات الإقليمية والدولية، وفي الوقت نفسه بناء قطاع صناعي متقدم يساهم في الاقتصاد الوطني.
وفي سياق آخر، من المنتظر أن تشمل الزيارة تعزيز التعاون في المجالات التعليمية والعلمية والثقافية. فالتعليم ضامن رئيسي للتنمية طويلة المدى، والتعاون بين الجامعات السعودية والأمريكية يمكن أن يفتح آفاقاً مهمة للبحوث المتقدمة وتطوير الكفاءات البشرية. كما يسهم دعم برامج الابتعاث المشتركة وتبادل الخبرات في بناء جسور معرفية تسهم في تحقيق تطلعات المملكة لبناء مجتمع معرفي مبتكر ومتقدم.
كما يتوقع أن يكون ملف المناخ والتنمية المستدامة حاضراً بقوة خلال الزيارة، خصوصاً أن المملكة تبذل جهوداً كبيرة في هذا المجال عبر مبادرات مثل السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، وتعمل على تطوير حلول عملية للتحديات البيئية العالمية. ويمكن للشراكة مع الولايات المتحدة في هذا الإطار أن تقود إلى تطوير مشاريع دولية رائدة تسهم في خفض الانبعاثات وتطوير التقنيات البيئية وتعزيز الاقتصاد الأخضر.
وفي ظل كل هذه المحاور، تعكس زيارة سمو ولي العهد أهمية الدور الذي تلعبه المملكة كقوة صاعدة تعمل على إعادة تشكيل موقعها العالمي، وتحرص على بناء علاقات دولية قائمة على المصالح المشتركة والتوازن والتنوع. كما تعكس رغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على شراكة قوية مع المملكة باعتبارها محور استقرار اقتصادي وسياسي في المنطقة.
وبهذا، يمكن القول إن الزيارة تمثل فرصة تاريخية لتعميق الشراكة بين الرياض وواشنطن، ووضع أسس جديدة لتعاون أكثر شمولاً في المجالات السياسية والاقتصادية والتقنية والتعليمية والدفاعية. ومع استمرار المملكة في مسار التحول الوطني عبر رؤية 2030، فإن هذه الشراكة ستشكل رافعة مهمة لتحقيق الطموحات الوطنية، وتدعيم مكانة المملكة كقوة مؤثرة في الإقليم والعالم، بما ينعكس على استقرار المنطقة وازدهارها في السنوات القادمة.
• رئيس مجلس دار أثان للبناء الفكري والدراسات الإنسانية والاستراتيجية
شكرا معالي الدكتور عبدالعزيز على هذا المقال الجاد والاشاره إلى اكثر المحاور التي تهدف اليها الزياره التي تؤكد مكانة المملكه سياسيا واقتصاديا وعسكرياً ، واسأل الله لسمو الأمير محمد التوفيق في كل ما يسعى
اليه وتحقيق اهداف رؤية المملكة التي كان هو عرابها ومتابع لما تحقق منها وما سوف يتحقق ان شاء الله ،وسفرا سعيداً لسموه وعوداً حميدا حفظه الله في حله وترحاله .