كانت أولى رحلاتي إليها في بداية الثمانينيات، عندما ذهبت لدراسة اللغة الإنجليزية، والسكن عند عائلة، والتعلّم في معهد في إحدى ضواحي برايتون وتُسمّى «هوف» بجانب «ويرثنغ».
وقد ذكرت ذلك في مقال طريف أعجب الكثيرين بعنوان قصتي مع الزبدة، وهو موجود في كتابي كل شيء ينمو.
وكان لا بدّ من السفر إلى لندن كعاصمة، ثم الانتقال إلى برايتون. وتذكّرت حينها مقالًا عن الحياة في بريطانيا وبعض المواقف المحرجة في الفصل بين الماء البارد والساخن، وكيف عليك أن تخلطهما بيدك… وغير ذلك.
والآن تغيّر الحال تمامًا.
ثم جاءت دراستي للدكتوراه في جامعة ويلز التي تبعد ساعتين عن لندن، وهنا تكرّرت الزيارات إلى لندن، لتصبح شبه أسبوعية تقريبًا، حيث الصحف العربية مثل الشرق الأوسط والحياة، أو محطة الـMBC وغيرها.
لكن عندما وصلتُها هذا اليوم 21/11/2025، وكان الجو باردًا جدًا ودرجة الحرارة واحدة مئوية، ووقفت عند موظفة الجوازات في مطار هيثرو، تذكّرت أستاذي العظيم معالي الدكتور محمد بن أحمد الرشيد، وزير التعليم السابق – رحمه الله – تلك الشخصية النبيلة الواثقة من نفسها.
تشرفت بالسفر بمعيته في رحلات كثيرة، منها رحلة عمل إلى لندن. يصفني مدير عام العلاقات في وزارة التعليم حينها، ويقترح أن نُحيط السفارة السعودية في لندن بخبر وصول الوزير، خصوصًا أن لمعاليه علاقة قوية بمعالي الدكتور غازي القصيبي – رحمه الله – السفير آنذاك، لترتيب الاستقبال والنقل، ولم يكن في تلك الرحلة معه أحدٌ سواي.
فردّ الوزير الرشيد ببساطة:
«سعود… ترى الأمور تساهيل.»
وأضاف: في المواصلات سنجد الصندوق – «التجوري الأسود» – في المطار، والسفارة لديها أعمالها، فلا داعي لإزعاجهم.
وصلنا مطار هيثرو وسرنا مع الناس في الزحام، وانتظرنا عند الجوازات حتى وصل معاليه إلى الموظف.
قرأ الموظف البريطاني المهنة في جواز الدكتور محمد الرشيد المكتوب فيه: «وزير التربية والتعليم».
فوقف الموظف من كرسيه وسأله:
هل أنت فعلًا كما هو مكتوب… وزير التربية والتعليم؟
وكنت أقف خلفه في الدور، وممنوع تجاوز الخط كما هو معروف.
فأجابه الوزير: نعم.
فكرر الموظف استغرابه قائلًا إن شخصيات كثيرة تصل من بلدكم، وبعضهم لا أهمية لهم ومع ذلك يطلبون فتح التشريفات وصالات كبار الشخصيات… أما أنت، بهذا التواضع، فتقف أمامي مع المسافرين بشكل اعتيادي!
وختم جوازه وهو يكرر تقديره وإعجابه.
وبعدها خرجنا من الجوازات إلى صالة الحقائب، وأخذ عربة، وانتظر سير الحقائب مع بقية المسافرين حتى جاءت حقيبته. تبعته وفعلت ما فعل.
ثم وقفنا ننتظر دورنا في سيارات الأجرة، وكان الانتظار طويلًا، فالتفت إليّ قائلاً:
«هذا هو الصندوق… التجوري الأسود اللي قلت لك عليه.»
وفعلًا… منظر تكسي لندن الأسود أشبه بصندوق كبير.
وفي الصباح ذهبنا إلى السفارة لمقابلة السفير، وفوجئ السفير غازي القصيبي بالدكتور الرشيد، وتشرفت بالجلوس مع هاتين القامتين، وكانت بينهما علاقة قوية.
وذكر الدكتور غازي كيف تتحرج السفارة مع أناس يلحّون على بروتوكولات الاستقبال رغم عدم وجود داعٍ لذلك.
تذكرت هذا الموقف… ودمعت عيناي، وترحّمت على الدكتور محمد الرشيد والدكتور غازي – رحمهما الله – وأحببت أن أذكر هذه القصة من لندن؛ لما فيها من أثر التواضع في تعاملاتنا، وما له من أهمية في نفوس من حولنا.
ولنا في ذلك خير مثال في شخصيّة رسولنا – صلى الله عليه وسلم – وصحابته من بعده – رضوان الله عليهم – ومنهم عمر رضي الله عنه الذي يبحثون عنه فيجدونه لوحده تحت ظل شجرة.
وعلى الرغم من المهابة الكبيرة، إلا أنه كان متواضعًا بشكل لافت للنظر.
ليس لتواضع عمر رضي الله عنه وجه واحد، بل له مظاهر وتجليات عديدة. وكان يرفض أن يُكال له المديح، فقد ناداه أحدهم قائلًا:
«يا خير الناس!»
فقال له: أدنُ إليّ.
أتدري مَن هو خير الناس؟
رجلٌ من البادية، له صُرمة من الإبل أو الغنم، باعها ثم أنفقها في سبيل الله.





