المقالات

الحضور اللغوي لولي العهد في البيت الأبيض

تأتي الزيارة التاريخية لولي العهد السعودي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- في توقيت مناسب حيث تعقب زيارة الرئيس الأمريكي للسعودية بستة أشهر، وهي الزيارة التي دُرِست فيها عدد من الملفات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.

والتواجد السعودي في البيت الأبيض ليس جديدا ولكنه كان في هذه المرة بشكل متجدد مغاير، يستوعب التاريخ، ويتعامل مع الواقع، ويؤسس للمستقبل، وحينما أتحدث هنا كمتخصص في اللغة؛ فإنني سأجعل حديثي عن هذا الجانب؛ حيث لفت أنظار العالم الحضور القوي لسمو ولي العهد، ومرجع ذلك إلى قوة شخصيته وما أحيط به من محبة وولاء، وما بناه عبر سني عمله من قصور مشيدة بالحب والفخر والاعتزاز في قلوب شعبه، وأخص من ذلك الحضور لسموه: الحضور اللغوي، فعندما يقصر سقراط ظهور الشخصية على الحديث والكلام فيقول: تحدث حتى أراك، فإن هذا يعني أن اللغة هي الظهور الأول الذي يكشف عن شخصية المتحدث ويبرز ما لديه فيبدأ المتلقي بالتعامل معه بناء على ما شكله عنه من الصورة التي رسمها حديثه وكلامه.
وأما من يتحدث أكثر من لغة فهو يتعامل مع أكثر من ثقافة، ويتجاوز عالم لغته إلى عوالم أرحب، يقول الفيلسوف اللغوي لودفيغ فيتغنشتاين: حدود لغتي تعني حدود عالمي، و من ذلك فإن اللغة الجديدة هي الطريقة الأساسية للولوج إلى أي ثقافة أو التعامل معها بيسر وسهولة.
وعلى مستوى الزيارات الرسمية الدولية فحينما يتحدث الضيف القادم بلغته الأم ثم يختم حديثه بعبارة ترحيبية أو توديعية بلغة البلد المستضيف فإنه بذلك يوطد المشاعر بينه وبين هذا البلد، وبينه وبين هذا الشعب؛ وهي خطوة رائعة وداعمه لتحقيق أهدافه من زيارته، وحينما يتحدث الضيف بلغة المضيف فإنه بذلك يمد جسور التواصل بشكل أرحب، وبصورة أجمل؛ فيتبع ذلك حسن التقبل ، وتتسع به فرص التفاوض؛ وتبرم به الصفقات على النحو الذي يرضيه ويريده لوطنه؛ فالموضوع ليس كلاما فحسب، بل هو ثقافة متنوعة يكتسبها الناطق باللغة ليعرف مداخل المخاطب ومخارجه، ويعرف كيف يتعامل معه، ثم يصل بأيسر السبل إلى مراده، وكل هذا في فلك الحديث باللغات وتعلمها كلغة ثانية، وأما أن يتحدث الضيف بلغة البلد المستضيف ثم يتفوق عليه بلسانه؛ فإن هذه عبقرية قلما تجدها، ولكننا رأيناها رأي العين في هذه الزيارة التاريخية إذ اتسم بها سمو ولي العهد -حفظه الله- في حديثه مع الرئيس الأمريكي، وهي التي جعلت الرئيس ترامب ومن معه لا يستطيعون إخفاء ملامح الانبهار والإعجاب، وهو مما دعاهم لإظهار التودد والتقرب لسموه بشكل لافت للنظر.
وما أكثر المواقف التي ظهر فيها الحضور اللغوي لسموه في هذه الزيارة، ولكني سأتوقف عند موقف واحد إذ ظهر التفوق فيه جليا، وذلك عندما وجهت إحدى المراسلات سؤالا علاه خبثُ المقصد، وغشته سطحية الفكرة، ثم اكتسى بغباء الطرح؛ أقول ذلك دون الخوض في تفصيله -ولو أردت لفعلت- ولكن حديثي هنا عما هو أرقى، عن حديث سمو ولي العهد، فبعد أن رد فخامة الرئيس الأمريكي وحجّم السائلة والسؤال، لم يكتف سمو ولي العهد بذلك، بل رد بنفسه بحجة أقوى، وبتفصيل أكثر ليُعلِمَ السائلة ومن وراءها أن الجواب حاضر وباللغة التي تحدثتم بها ولكن بمقصد بَنّاء، وفكرة عميقة، وطرح قوي؛ فلله درك ياسيدي من متحدث بليغ دافعت عن بلدك ورددت كيد الكائد، وأسعدت المحب، ولفت نظر العالم، وما ذاك عنك بغريب، فأنت أنت محمد بن سلمان.
إنني وأنا أتناول هذا التميز اللغوي فإنني أعلم يقينا قيمة الاعتزاز باللغة العربية والذي ظهر جليا في خطاب سموه الرسمي في منتدى الاستثمار الأمريكي السعودي، حيث اختص -حفظه الله- اللغة العربية بهذا الخطاب، ولئن قالت العرب: المرء مخبوء تحت طي لسانه لا تحت طيلسانه، فإن حديث سمو ولي العهد بلغة الضيف والمضيف أرى العالم بأسره من نحن، ومن هم قيادتنا.
إن هذه الزيارة الميمونة الناجحة على مختلف الأصعدة إنما جاءت بهذه الصورة نتيجة لعمل كبير جدا يقوده ولي العهد السعودي -حفظه الله- صاحب الرؤية النافذة والنظرة الثاقبة، وهانحن نتأمل تفاصيل زيارته وفصولها تغمرنا مشاعر الفخر والاعتزاز أن يقود وطننا هذا المحنك السياسي، صاحب الحضور اللغوي المميز، الذي اتسم بالطموح الوثاب، والجناب المهاب .

أ.د منصور سعيد أبو راس

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

‫2 تعليقات

  1. رائع يا أبا عبدالله..
    التقاطة بديعة من متخصص، وثناء صادق عبّر عمّا في نفوسنا جميعًا.
    لقد خرجنا كلنا بهذا الانطباع، وزدته جمالًا بحسن صياغتك وعمق رؤيتك

  2. لقد أبدعتم كعادتكم بروف منصور. فقدمتم مقالًا فريدًا يشعر القارئ بالفخر العميق وينمي الولاء والفداء لهذا القائد الفذ. لقد انتقيت المفردات بمهارة عالية وأبرزت الحضور اللغوي الفذ لولي العهد، وربطتَ بين قوة الشخصية وقوة اللغة بأسلوب محكم ورؤية واعية. تجلّت في كتابتك دقّة التحليل، وجمال العبارة، وعمق الفهم. فجاء طرحك ثريًّا يلامس جوهر الحدث، ويعكس اعتزازك بالهوية واللغة والقيادة، بل ويبرز حرفيّتك في توظيف الأدلة والمواقف لإيصال رسالة رصينة تزيد القارئ فخرًا وثقة.
    لا عدمنا هذا التألق بروف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى