بينما كنتُ أدرس في بريطانيا في نهاية التسعينات الميلادية كان لي صديق برازيلي في القسم والتخصص نفسه، سألني ذات يوم عن مستقبل ابني مشرف، وماذا أخطط له في المستقبل؟
تعجبتُ من سؤاله لأنّ (مشرف) يومها لم يتجاوز الرابعة من عمره!
قلتُ لزميلي البرازيلي: بدري!
فقال لي: «ابني الآن في السادسة من عمره، وقد خططتُ له ليكون مهندسًا تقنيًا في المستقبل؛ وبدأتُ أعدّه لذلك منذ الآن؛ لأنّ رؤية بلادنا البرازيل 2020 تركّز على الجانب التقني.»
ما لفتني في حديث الصديق البرازيلي هو هذا التناغم الفعّال بين المجتمع البرازيلي والرؤية الاقتصادية للحكومة البرازيلية؛ تناغم بلغ حدَّ تأطير الوجهات التربوية والعلمية والأكاديمية للأطفال لتدعم رؤية البلاد وتستفيد منها في الوقت نفسه.
ومن المؤكد أنه لا يمكن لرؤية ما أن تنجح إذا لم نتمكن من خلق مجتمع يؤمن بها، ويقتنع بأهميتها، ومن ثم يبني مشاريعه وخططه وبرامجه على ضوئها.
لقد دشَّنت بلادنا العزيزة رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – يحفظه الله – (2030)، وهي رؤية تقوم في جوهرها على الانتقال من اقتصاد النفط إلى اقتصاد المعرفة، أو الانتقال من استثمار كنوز الأرض إلى استثمار كنوز العقل؛ لتحل بذلك الاختراعات والابتكارات والاكتشافات التي يجود بها عقل المواطن السعودي محل الاستخراج والتكرير والمعادن التي تجود بها الأرض. وهذه النقلة المجتمعية الهائلة تحتاج لنجاحها إلى مجتمع يتفهّمها ويتقبلها ويكيّف توجهاته وخططه المستقبلية معها.
لا شك أن لمؤسسات التعليم العالي في المملكة دورًا مهمًا عن طريق توظيف البحث العلمي في تحقيق رؤية (2030)، وهناك الكثير من الأفكار لو تم تطبيقها لتحوّل مجتمعنا من مجتمع النفط إلى مجتمع المعرفة.
ولعلّ مما يساعدنا على هذا الانتقال المجتمعي أننا أبناء أمّة علّمها دينها كيف تفكّر، وكيف تتعلّم، وكيف تبتكر؛ فنحو ثلث آيات القرآن الكريم التي يبلغ عددها (6236) آية – أي قرابة (1100) آية – تحث على التفكير والتدبر والنظر.
وأحاديث المصطفى ﷺ مليئة بالحث على العلم والتعلم واعتباره عبادةً وقربةً. وتاريخنا الحضاري ملؤه العلم والعلماء والمفكرون والمبتكرون، وكل منصف من مؤرخي العلوم يشهد بأنه لولا البصمة الإسلامية في التاريخ الحضاري الإنساني لما وصلت البشرية اليوم إلى ما هي عليه من تقدم وازدهار.
فالحضارة الإسلامية مدينة بالتقدم والازدهار لكثير من الإسهامات العلمية والثقافية، حيث ساهمت خلال عصورها الذهبية في إحداث طفرة علمية في مجالات متعددة كالطب والهندسة وعلم الفلك والرياضيات، وأثّرت على الحضارات الأخرى من خلال إبداعاتها ومساهماتها في الفن والاقتصاد والأدب والفلسفة.
وقد صدقت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في تناولها لدور الحضارة الإسلامية، حيث أبرزت مساهماتها في نهضة أوروبا من خلال كتابها الشهير «شمس العرب تسطع على الغرب».
وسجّل كذلك العالم الأمريكي البلجيكي الأصل البروفيسور (جورج ستيوارت)، المتخصص في تاريخ العلوم والذي حملت اسمه جائزة ستيوارت لتاريخ العلوم، سجّل هذا العالم الكبير شهادته المضيئة للحضارة الإسلامية ودورها في ترسيخ المناهج التجريبية وتطوير حركة الاختراعات المعرفية.
نحن إذن أبناء دين يحثّ على المعرفة، وأبناء حضارة قامت على المعرفة، وأبناء لغة أحاطت بالمعرفة؛ فكيف لا نكون مجتمعًا يتفاعل مع المعرفة.



