المقالات

ذكريات الذكريات (1–2)

استشفافًا من «ذكريات الشرقية» للدكتور عائض الزهراني

في صباحٍ أربعائي من صباحات تهامة المشمسة على قلوة، إحدى حواضر القرى المتناثرة بين سفوح سلسلة جبال السروات والساحل الغربي.
قرى تغفو على الهضاب، وأخرى تعانق التلال، وثالثة تُغازل شواطئ الوديان.

من نفح الغسق ووهج الشموس وصهيل الأصيل وسكون الليل، تأسرُك ألفُ حكايةٍ وحكاية عن موّال الرعاة، وحداء الحراث، وخرير السواقي، ورقصات السنابل، ورائحة الشاذلية.

في اصطخاب هذه الأجواء المثخنة بالأصالة والبداوة والحب وعبق التراث، ينسلّ من وسط الزحام ذلك الشاب الصغير ليهاجر بعيدًا عن كل تلك الطقوس، وعن حدود المكان والزمان، بحثًا عن أول محطة في رحلة التنوير.

في ذلك الصباح الأربعائي تحلّق الناس حول تلك السيارتين (اللوري)، وسيلة النقل الوحيدة، وهم يودّعون ويوصون، وأحيانًا تخونهم مشاعرهم في بريق دموع لا تخفيه المحاجر.

غادرت السيارة، وتعالت تلويحات الوداع، وعنق الشاب لا يغادر خلفه، حيث ودّع بلهفةٍ حارة آخر حدود النظر لقريته وناسه، وأول مسافات الغربة.

مكة—هي محطة الوصول لقوافل المسافرين من هذه الأنحاء.
المسافة: يومٌ وليلة، تخوض فيهما السيارة غياهب تضاريس صعبة، وعرَة ومتنوعة:
أودية جرداء سحيقة…
هضاب ممتدّة متصاعدة…
كثبان رمال متراكمة…
وسِباخ الملح تنثر في وجوه العابرين لونًا آخر من ألوان تعب الطريق.

تخون السائقَ كثبانُ الرمل، فـ “تغرز” السيارة، ويغطي الرملُ نصف الكفرات، وعلى الركاب أن ينزلوا ويحفروا حتى تستوي السيارة على الجادّة.
وفي “السبخة” يجذب الماءُ السيارة فـ “تغطس” الكفرات في حفر الماء والملح، وينزل الركاب ثانية وثالثة حتى تخرج السيارة من وعرها.

طريقٌ صعب، تحدياتُ التضاريس لا تنتهي، لكن المسافرين يواجهونها بالجلد والعزيمة وحكايا الاغتراب وقصايد الليل الطويل.
(هنا) يمكنك أن تستشف بوضوح عمق السفر الشاق وملحمة الشغف والصبر.

مع طلوع خيوط الفجر من اليوم الثاني تقترب بهم اللوري من مدارج الفرح.
يتبدّى وجه النهار، وتغازل الشموس رؤوس جبال البيضاء شيئًا فشيئًا، وتعانق أبصارهم أم القرى بكل نورانيتها وروحانيتها.
يلتقطون الأنفاس وهم يدخلون إليها عبر شوارعها وأحيائها وحدائقها.
وعند قصور السقاف يحطّون رحالهم، وهم يلقون على مكة تحيّة الإكبار والتكبير…!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى