منذ أن عرف الإنسان معنى العطاء وهو يبحث عن تلك اللحظة التي يشعر فيها أن ما يقدّمه للعالم يعود إليه نورًا في روحه قبل أن ينعكس على حياة الآخرين. فالعطاء ليس انتقال مالٍ من يدٍ إلى أخرى، ولا مبادرة عابرة تنتهي بمجرد تنفيذها، بل هو فعلٌ يوقظ في داخل الإنسان أعمق معاني الإنسانية، ويعيد إليه إحساسه بأنه قادر على تحسين الحياة، وأن وجوده في هذا العالم يمكن أن يكون منبعًا للخير. وقد رسّخ القرآن الكريم هذا المعنى العظيم حين قال تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ﴾، فالله سبحانه وتعالى لم يقل: “وما تقدموا للناس”، بل قال: “لأنفسكم”، وكأن الخير حين يخرج منك لا يذهب بعيدًا بل يعود ليضيء قلبك وروحك وبركة أيامك. وجاء النبي ﷺ ليضيف لليقين يقينًا بقوله: “ما نقص مالٌ من صدقة”، في إشارة إلى أن العطاء ليس معادلة حسابية، بل معادلة ربانية تعود بالزيادة لا بالنقص، وأن المال حين يُمنح للخير لا يُستهلك بل يُنمّى.
ومع ذلك، فإن العطاء لا يولد كاملًا في بيئة مضطربة ولا ينمو في مجتمعٍ لا يشعر أفراده بالأمان. فالخائف لا يعطي، والمتردد لا يبذل، والإنسان لا يفتح يده إلا إذا اطمأن قلبه. وهنا تبدأ قصة المملكة العربية السعودية. تلك القصة التي شهد العالم فصولها، وتحولت فيها أرضٌ واسعة كانت امتدادًا للصحراء إلى دولة تنمو بثقة، وتنهض بثبات، وتبني مستقبلًا يتجاوز حدود التوقع. عندما ظهر الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيب الله ثراه – لم تكن هذه الأرض تملك مقومات النهضة؛ لم يكن هناك أمنٌ يضمن للناس حياتهم، ولا تعليم يفتح عقولهم، ولا صحة تحفظ كرامتهم. كانت الأرض شاسعة، والخوف حاضرًا، والجهل متفشيًا، والمرض يفتك بالناس بلا دواء. ومع ذلك، لم يبدأ الملك عبدالعزيز ببناء الحجر قبل بناء الإنسان، ولا بالعمران قبل أن يمنح الناس أهم عطاء يمكن أن يُقدَّم لبناء وطن: عطاء الطمأنينة.
الأمن كان أول هدية قدمها المؤسس لشعبه، والأمن ليس سياجًا من الجند فقط، بل هو حالة روحية قبل أن يكون حالة سياسية. الأمن هو اليد التي توضع على كتف الإنسان لتقول له: لا تخف… أنت في وطن يحميك. وما إن شعر الناس بالأمان حتى بدأت قلوبهم تستقر، وحياتهم تنتظم، وأحلامهم تتشكّل من جديد. وبعد الأمن جاء عطاء العلم. أنشأ الملك عبدالعزيز المدارس، ورعى العلماء، وشجع الناس على تعليم أبنائهم، وإرسال البعثات، ورأى في العلم بوابة النجاة من الفقر والضعف. ثم جاء عطاء الصحة، حين بدأت المستشفيات تُبنى، وأصبح العلاج متاحًا، وصارت حياة الإنسان محفوظة بكرامة. بهذه الثلاثية — الأمن، التعليم، الصحة — بدأ مشروع الدولة الذي غيّر وجه الجزيرة العربية إلى الأبد.
ومع مرور العقود، واصل الملوك أبناء عبدالعزيز ذات النهج، وحافظوا على مبادئ الوحدة والعطاء والبناء. لم تعرف المملكة ازدهارها الحقيقي إلا في ظل الحكم السعودي الذي آمن بأن الإنسان هو قلب التنمية، وأن الطمأنينة أساس كل تطور، وأن الأمن هو البذرة الأولى التي تتفرع منها جذور النهضة. وعندما اطمأن الناس، بدأت عجلة التنمية تدور، فالطمأنينة ليست شعورًا جميلًا فحسب، بل هي الشرط الأول لكل نمو. لا مشاريع بلا أمن، ولا تعليم بلا استقرار، ولا اقتصاد بلا ثقة.
ثم جاءت رؤية المملكة 2030 بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – لتفتح فصلًا جديدًا من فصول التنمية، وتجعل من العطاء والعمل غير الربحي مسارًا واضحًا وثابتًا في بناء الوطن. لقد توسّعت البنية المؤسسية، وتطورت الأنظمة، وازدهرت المبادرات، وأصبح القطاع غير الربحي عنصرًا استراتيجيًا في الاقتصاد الوطني، لا قطاعًا مساعدًا. ونتيجة لذلك، برز دور المانحين كشريك أساسي في هذا البناء.
ومع توسع الدور التنموي للمنح، أصبحت طمأنة المانحين ضرورة لا يمكن تجاوزها. فالعطاء لا يستمر إلا إذا شعر صاحبه أن ما يقدّمه يُدار بأمانة، ويصل لمستحقه، ويصنع أثرًا حقيقيًا. المانح يريد وضوح الطريق: من يستفيد؟ كيف تُدار المشاريع؟ ما النتائج؟ وما الأثر الفعلي على حياة الناس؟ يريد شفافية تريه الحقائق كما هي، دون مبالغة أو تجميل. يريد حوكمة تحفظ أمواله كما تحفظ الدولة مواردها. يريد أن يشعر أنه ليس ممولًا فحسب، بل شريك في التنمية.
وهنا يأتي دور المؤسسات والجمعيات: دورها ليس جمع المال، بل أخذ بيد المانحين، ومرافقتهم في رحلة العطاء، وتقديم الطمأنينة لهم بكل تفاصيلها. فالطمأنينة لا تُعطى بالكلمات، بل تُبنى بالسلوك، وتترسخ بالصدق، وتكبر مع كل أثر حقيقي يشعر به المانح. فكل مشروع مكتمل رسالة طمأنة، وكل نجاح ميداني وثيقة ثقة، وكل قصة أثر جسر جديد يمتد بين المؤسسة والمانح. الطمأنينة تجعل العطاء مستدامًا، وتجعل الأثر عميقًا، وتجعل المجتمع شريكًا في بناء نهضة وطنية لا تتوقف.
وهكذا نستطيع أن نرى رحلة المملكة في صورتها الكبرى: بدأت بالطمأنينة التي منحها الملك المؤسس لشعبه، واستمرت بالعطاء الذي قدمته القيادة عبر العقود، وتُستكمل اليوم عبر رؤية طموحة تجعل كل فرد قادرًا على الإسهام، وتجعل كل مانح شريكًا في صناعة الغد. إنّ العطاء الذي يطمئن هو العطاء الذي يبني وطنًا، ويرفع إنسانًا، ويترك أثرًا يليق بهذه الأرض المباركة. ومن الطمأنينة تبدأ التنمية، وبالعطاء يكتمل ازدهار الوطن، ومع ثقة المانحين تستمر مسيرة النهضة التي لا تعرف التوقف.
طالب دراسات عليا – الماجستير التنفيذي للأوقاف والقطاع غير الربح