طُويت صفحةٌ من الإثراء المعرفي والثقافي برحيل المثقف الواعي والناقد المنصف الدكتور محمد مريسي الحارثي -رحمه الله-، فقد فقد الوطن والمجتمع العربي واحدًا من أكثر النقاد حصافة وإلمامًا ونباهة وبصيرة.
لقد كرّس الفقيد حياته للعلم والتعلم والتعليم، متجاوزًا كل ظروف البدايات والصعوبات، ليُكرّس ذاته للبحث والقراءة والمعرفة، وهو ما انعكس على عمق تجربته الأدبية وثقافته الواسعة. فكان له بصمة جلية في إثراء المدرسة النقدية بدراسات وأبحاث وكتب ستظل خالدة بعد رحيله، وهو الإرث العظيم الذي سيبقى في المكتبة الثقافية.
لم يكن الدكتور محمد بن مريسي مجرد أكاديمي مثقف، بل كان موسوعة ثقافية وأدبية نهل منها طلبة العلم عقودًا من الزمن، وكان رائدًا من رواد الحركة الأدبية في المملكة، منفتحًا على المجتمع، متواصلًا مع الناس في الأفراح والأتراح، وحريصًا على مد جسور التواصل مع النقاد والأدباء والإعلاميين، مما جعله حاضرًا في المشهد الثقافي طوال عقود مضت.
شخصيًا، عرفتُ هذا الرمز الثقافي منذ عقدين من الزمن، حيث جمعتني به أروقة الأندية الأدبية والصوالين الثقافية، حين كنت أشارك بها للتغطية الإعلامية.
ما شدّني في شخصيته النبيلة كان حضوره المختلف، وطرحه الثري، وإنصافه وتجرده من الأهواء الشخصية في النقد، فقد كان لطيف النقد، ثري الثقافة، عميق التجربة.
كان رجلًا متواضع الأخلاق، كريم السجايا، لطيف الحديث، دائم الابتسام أثناء حديثه، ويمتلك موهبة نقدية مهولة ومخزونًا علميًا ولغويًا ضخمًا، يستطيع معها أن يبحر في أعماق النصوص، يستخرج منها أروع ما فيها من جماليات، ويشير إلى مكامن الخلل دون أن يفقد الود مع صاحب النص أو يجرحه.
كانت منهجيته النقدية متجردة من التحيز والتعصب، حيث كان يركز على عناصر العمل الأدبي فقط، ويبرر أحكامه سواء في حال الجودة أو الضعف، وهذا يعكس غزارة علمه وعمق ثقافته وتمرسه الذي اكتسبه من قراءاته الواسعة.
فضلًا عن ذلك، نشأته في بيئة شعرية ساهمت في تعزيز حسه النقدي وذائقته الأدبية، حيث كان والده الشاعر مريسي الحارثي من الشعراء المعروفين، مما أضاف عمقًا لتجربته النقدية وأعلى من مستوى رؤيته الأدبية.
كان يجمعنا به في مكة المكرمة لقاءٌ أسبوعي في صالون الشيخ محمد صالح باشراحيل، حيث تتنوع الأماسي بين الثقافية والاجتماعية. كان الفقيد -رحمه الله- يمتع الحاضرين بأطروحاته الغنية وأسلوبه الأدبي الراقي وقراءاته المتعمقة، مما يضفي على كل أمسية طابعًا خاصًا يصفق له الجميع.
كان الدكتور عبدالله باشراحيل، المشرف على الصالون، يكرّمه عدة مرات تقديرًا لما يقدمه من فائدة علمية وثقافية، حيث كان المتحدث الوحيد الذي لا يُحدد له وقت في التعليق، لما يمتلكه من جمال الطرح وروعة الأسلوب.
كان تشييع جثمانه في مقبرة شهداء الحرم في مكة المكرمة مشهدًا مهيبًا وشاهدًا على مكانته الكبيرة في نفوس محبيه، وكانت أيام العزاء في منزله في العوالي رسالة عظيمة لكل المثقفين، بأن من عاش للناس وأحب الناس، فسيكون رحيله صعبًا عليهم.
فقد توافدت الجموع من كافة أنحاء الوطن للعزاء فيه، بمختلف شرائحهم ومستوياتهم الثقافية، وهذا يعكس التقدير الكبير لمكانته الأدبية والعلمية.
رحل الأديب الكبير الدكتور محمد بن مريسي -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته-، لكنه ترك وراءه أثرًا طيبًا، وعلمًا واسعًا، وذكرى لا تُمحى ولا تُنسى.
