فليست كل الأخبار أرقامًا وإحصاءات ولا كل التقارير عناوين تتزاحم على شاشات الهواتف. ففي بعض الزوايا المنسية تولد الكتابة من صميم المعاناة وتغدو الكلمة شعلة أمل في عتمةٍ لا ترحم. هناك نوع من الصحافة يختار أن يمنح الوجوه المنسية فرصة للظهور ويمنح الأصوات المكسورة حقًا في أن تُسمع. صحافة تمشي بين خيام اللاجئين وتدخل أنقاض الزلازل وتطرق أبواب القرى المنهكة لتروي تفاصيل حياةٍ كانت ستظل خلف الكاميرات لو لم تُكتب.
لا تكتفي هذه الصحافة بعدّ الضحايا أو تقدير الخسائر بل تغوص في عمق الحكاية. يلتقي المراسل بأمٍّ فقدت أبناءها أو بطفلة تبحث تحت الركام عن حقيبتها المدرسية أو بعجوز لا تملك من الدنيا سوى صورة باهتة من زمن بعيد. بكلمات قليلة وصورة واحدة قد توقظ هذه القصة ضميرًا نائمًا وتحوّل مأساة صامتة إلى حملة إنقاذ تمتد من يد قارئ عادي إلى مؤسسة كبرى.
في كل مرة يغامر فيها صحفي بدخول منطقة منكوبة أو بؤرة نزاع لا يحمل معه كاميرا ودفترًا فقط بل يضع على عاتقه مسؤولية أخلاقية أعمق: ألّا تتحول دموع المتضررين إلى مشهد عابر أو مادة لجذب المشاهدات. وهنا يكمن التحدي الحقيقي أن تكتب بصدق وتوثّق بإنصاف وتحافظ على كرامة من تكتب عنهم وسط زحام الفضول وضغوط السبق الصحفي.
هذا النوع من الكتابة يتطلب شجاعة مضاعفة إذ يواجه صاحبه مشاهد قد تثقل قلبه إلى الأبد وقد يضطر أحيانًا للمخاطرة بحياته لينقل قصةً تمرّ على البعض في لحظة تصفّح عابرة لكنها تبقى عالقة في قلب من عاشها وأخرجها إلى النور.
ورغم قسوة المهمة فإن أجمل ما فيها أنها تذكّرنا بأن الإنسان هو جوهر كل خبر ومعنى كل عنوان. وأن خلف كل كارثة هناك تفاصيل صغيرة لا يجب أن تُختصر في رقم بل تُروى لتُحيا. فحين يرى أحدهم دمعة في عين طفل ويقرر أن يكون فاعلًا لا متفرجًا — متبرعًا داعمًا أو حتى ناقلًا لصوت الحق — تصبح الكلمة إنسانًا حيًا يتحرك في العالم.
في زمن مزدحم بأخبار السياسة والمال والرياضة تبقى الصحافة الإنسانية علامة فارقة. ليست فقط نوعًا من الكتابة بل فعل تذكير دائم بأن أكثر القصص تأثيرًا ليست التي تملأ الصفحات بل تلك التي تلامس شيئًا عميقًا في قلب كل قارئ.