في ظل طغيان وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاته، آمن كثيرون بموت الصحافة، وفي الوقت الذي تقبّل آخرون مقولة: “أن الزمن ليس زمن المقروء بل هو عصر الصورة بامتياز”، كان الصديق عبدالله الزهراني مؤمنًا بأن (خطاب النهايات) تبسيط علمي له محاذيره وأثره، وكان يتحدث معنا عن التشوُّهات الإبستيمولوجية لهذا الخطاب وخطورته على السرديات الكبرى في علوم الإعلام والاتصال؛ داعيًا للتمرد عليه وتقويضه.
الزهراني عمليًا اشتغل على هذا المحو للمقولات، مواصلًا رحلته الإعلامية، موقنًا بحقيقة أن الجديد لا يلغي القديم، وشعاره كان دومًا: (نستوعب كل جديد لنذهب بمنتجنا القديم بعيدًا)، فيما سلاحه الدائم كان ذلك اليقين بأنه قادر على استشراف آفاق المستقبل، وإيمانه الراسخ بأن الخيار الأمثل هو (استيعاب الجديد بدل انتظار الموت وتخيّل شكل النهاية).
بهذا التصور الإدراكي خلق رحلة تحول مقترنة بحالة تزامن نادرة بين مجموعة من العمليات التي كانت إلى زمن قريب متباعدة، لتصبح عملية الدمج بين مختلف المكونات ممكنة، بل وتحمل روح الجِدّة والابتكار. انطلقت باكرًا بفكرة تحويل المقال المكتوب إلى مقال صوتي، الذي جاء في وقت مبكر من رحلة التحول للصحيفة، وصولًا إلى البودكاست الذي كان آخر منتجات رحلة التحول للصحيفة، والذي تم توظيفه بشكل خلاق لاستيعاب منتجات الذكاء الاصطناعي، لخلق صحافة ما بعد الخبر والمقال في لحظة حاسمة جعلت الريادة لصحيفته التي نجحت في تعبيد طريق جديد نحو محطة جديدة للصحافة وحراكاتها المؤثرة.
هذا التحول كان حتمية لذلك السعي الدؤوب نحو التحديث الإعلامي، الذي شاهدنا معه كيف عدَّلت صحيفة مكة الإلكترونية أشكال بثِّ المحتوى الإعلامي وطرقت به مناطق بكر.
ويقينًا – ولا نبالغ هنا – حين نقول: إن صحيفة مكة جعلت من تعدد الحوامل والأوعية الباثّة للمضامين الإعلامية حالة من الرشد والنضج. الحالة تشكلت عبر ثقافة الاندماج لمختلف الاتجاهات لتصل معها الصحيفة إلى مرحلة نضج وتطور يخدم الصحافة بالجديد من الحوامل، ولا يلغيها كما تصورنا.
هذه الخطوات هي بمثابة اختبار للصحافة ومحكّات صادقة تقيس مدى القدرة على توظيف الأوعية الاتصالية الحديثة لتكون في خدمة القديم منها، وتوضح مدى قابلية تلك الأوعية للحمل والتنقل بإدخالها معترك الاستعمال الصحافي اليومي وبشكل متسارع، وهو ما نجحت فيه صحيفة مكة بامتياز حتى اللحظة.
بهذا الفكر الاستيعابي أثبتت صحيفة مكة أن الصحافة مستعدة لاستقبال كل هذا الفائض من الاستخدامات اليومية للناس، وقادرة على التعاطي مع كل منتج جديد بجعله رافدًا يزيد من قوة واتساع ومساحات التأثير.
قد يذهب البعض إلى اعتبار هذا الاستشهاد ببودكاست صحيفة مكة، ومن قبل بمقالها الصوتي، احتفاءً بالحتمية التقنية. وبقليل من التفكير سنجد أن الإعلام الجديد هو في الأصل من فعل الإنسان، وليس من فعل التقنية التي لا قيمة لها إن لم يستخدمها الإنسان. وقد حسم هذا الجدل فرنسيس بال عندما قال: “إن وسائل الاتصال، تتخذ قيمتها من حقل استخدامها؛ فالتقنية لا تفرض علينا شيئًا، فهي تقترح والإنسان يتدبَّر الأمر أو يعيد تركيبها”.
الحالة محل قراءتنا هذه تجعلنا نخلص إلى مقولة تمثل حقيقة: فمصير وسيلة الاتصال، كغيرها من التقنيات، لا يتحدد سلفًا وفق المقولات الجاهزة، والتي كان أكثرها رواجًا مقولة (موت الصحافة)، فالوسائل لن تموت متى تعاملت مع المهددات بوعي واستبصار وبقليل من الذكاء.
ومعلوم بالضرورة أن وسائل الإعلام كثيرًا ما فاجأتنا على الدوام، وعلى حد رأي فرنسيس بال نفسه: “إن استخدامات وسائل الإعلام نادرًا ما تتطابق مع ما صمَّمه لها مخترعوها”، وقد أثبتت صحيفة مكة صحة هذه المقولة، فالبودكاست هنا جاء لخدمة مقالات كُتّاب الرأي بالصحيفة، بدلًا من أن يكون منتجًا مستقلاً بذاته





