المقالات

الخطاب الملكي لولي العهد في مجلس الشورى: رؤية القيادة لمستقبل الوطن وتوجهاته الإستراتيجية

يُمثّل الخطاب الملكي السنوي لافتتاح أعمال مجلس الشورى حدثًا وطنيًا بارزًا يجسّد الدور المحوري للقيادة في رسم توجهات الدولة وتوجيه مسارها الإستراتيجي، بما يحمله من مضامين عميقة ورسائل سامية تعكس أولويات المملكة الراهنة وتطلعاتها المستقبلية. وقد جاء الخطاب الملكي السنوي لإفتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة التاسعة لمجلس الشورى لعام 1447 هـ الذي ألقاه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود ليعكس التزام القيادة في المملكة العربية السعودية بأحد أهم المناهج والمبادئ وهو مبدأ الشورى المنصوص عليه في النظام الأساسي للحكم والذي يستمد مشروعيته من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لتحقيق تطلعات ولاة الأمر – حفظهم الله- ومصالح البلاد وتقديم كل ما من شأنه خدمة الوطن والمواطنين وتحقيق التنمية الشاملة في جميع المجالات، وليرسم سياسة المملكة الداخلية والخارجية ومواقفها بشأن مختلف القضايا الإقليمية والدولية، والإستراتيجيات والمشاريع المستقبلية للدولة وليحدد الملامح الأساسية للجوانب الإقتصادية والاجتماعية والتنموية. وفي هذا الإطار، تأتي هذه المقالة لتعبّر عن اعتزازنا بما تضمنه خطاب ولي العهد من سياسات واستراتيجيات داخلية وخارجية، وما رسمه من ملامح الازدهار لمستقبل المملكة التنموي وإمكاناتها ومكانتها على الصعيدين الإقليمي والدولي، ولتقدّم قراءة قانونية دقيقة لمضامينه المهمة، ورسائله السامية، ودلالاته العميقة.
في خطاب تاريخي تميّز بالوضوح والشمولية وجمع بين الواقعية والطموح وحمل رسائل التفاؤل والحزم في آن واحد، أعلن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن افتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة التاسعة للمجلس لعام 1447هـ. وجسّد الخطاب رؤية متكاملة تجمع بين التمسك بالثوابت الدينية والوطنية، والتطلع الطموح نحو المستقبل، في مشهد سياسي متوازن يجمع بين الأصالة والتحديث حيث أكد ولي العهد في بداية خطابه على أسس الدولة السعودية الراسخة في إعلاء الشريعة الإسلامية والعدل والشورى، مشدّدًا على أن خدمة الحرمين الشريفين ليست مجرد شرف ديني، بل هي مسؤولية وطنية عليا تُسخَّر لها كافة الطاقات بلا حدود، في دلالة واضحة على أن الشرعية الدينية والسياسية للمملكة ترتكز على مبادئ لم تتغير منذ ثلاثة قرون.
وضمن مسار المملكة نحو تعزيز التنمية الاقتصادية الشاملة، كشف الخطاب عن تحولات نوعية في هيكل الاقتصاد الوطني، مشيرًا إلى أن الأنشطة غير النفطية أصبحت تمثل 56% من الناتج المحلي الإجمالي، في سابقة تاريخية تعكس نجاح استراتيجية التنويع الاقتصادي ضمن مستهدفات رؤية 2030. ومن اللافت أن هذا النمو غير النفطي ترافق مع تجاوز الناتج المحلي الإجمالي حاجز 4.5 تريليون ريال، ما يعكس متانة البنية الاقتصادية وعمق التحولات التي تشهدها المملكة. وفي خطوة تعكس الثقة العالمية بالمملكة، استقطبت الرياض أكثر من 660 شركة عالمية لتكون مقراتها الإقليمية، متجاوزة الرقم المستهدف لعام 2030، لتؤكد المملكة موقعها كمركز عالمي للأعمال والخدمات التقنية.
وفي محور التطوير التقني والعسكري، فقد شدد الخطاب على أن الاستثمارات الكبرى في مجال الذكاء الاصطناعي لا تُعد مجرد خيار اقتصادي، بل خطوة استراتيجية نحو بناء مستقبل معرفي يجعل من المملكة مركزًا عالميًا في هذا المجال خلال السنوات المقبلة. ويتكامل هذا التوجه مع الجهود المبذولة في القطاع العسكري، حيث ارتفعت نسبة توطين الصناعات الدفاعية إلى أكثر من 19% بعد أن كانت لا تتجاوز 2%، وهو إنجاز وطني بالغ الأهمية يعكس التقدم في مجالات التصنيع، والاعتماد الذاتي، والسيادة الدفاعية، بالتوازي مع شراكات استراتيجية فعالة.
أما من حيث السياسات المالية، فقد بيّن الخطاب أن بناء مالية عامة قوية لا تعتمد على مصدر وحيد متقلب مثل النفط يُعد أحد أعمدة التنمية المستدامة، إذ يمثل التوازن المالي ضرورة أساسية لخلق بيئة مستقرة للنمو والاستثمار. وتجسّد هذا التوجه من خلال الانخفاض الملحوظ في نسبة البطالة، والارتفاع غير المسبوق في مشاركة المرأة في سوق العمل، بالإضافة إلى تراجع أعداد محدودي الدخل. وبذلك تؤكد الدولة أن نجاحها لا يقاس فقط بالأرقام الاقتصادية المتقدمة، بل أيضًا بمدى الأثر الاجتماعي والاقتصادي للإنفاق العام، لضمان توجيه الموارد نحو تحسين جودة الحياة للمواطنين والمقيمين على حد سواء.
ورغم الإنجازات البارزة، لم يغفل الخطاب معالجة التحديات الواقعية التي تمس حياة المواطنين، حيث تناول قضية ارتفاع أسعار العقارات السكنية في بعض مناطق المملكة، واصفًا هذا الوضع بأنه غير مقبول، ومؤكدًا ضرورة معالجة التشوهات لضمان التوازن بين تكلفة السكن ودخل المواطن. وتعكس هذه الخطوة رؤية الدولة الحكيمة وحرصها على الاستجابة السريعة، من خلال سياسات تنظم السوق العقاري، وتطوير مشاريع سكنية مبتكرة، وتوفير خيارات متنوعة تلبي احتياجات المواطنين، بما يعزز جودة الحياة ويترجم أهداف رؤية المملكة في بناء مجتمع مستقر ومزدهر.
في ذات السياق، أشاد سموه بالأداء الحكومي القوي والمرن، الذي أظهر قدرة كبيرة على امتصاص الصدمات الاقتصادية والتكيف مع المتغيرات، من خلال مراجعة مستمرة للبرامج التنموية وضمان توافقها مع المصلحة العامة. وأكد سموه أنه لن يكون هناك تردد في تعديل أو حتى إلغاء أي برنامج لا يخدم هذه المصلحة، ما يعكس منهجًا إصلاحيًا مرنًا وشفافًا، يضع المواطن في قلب عملية صنع القرار ويضمن أن تكون كل السياسات والخطط موجّهة نحو تعزيز رفاهيته وتحقيق تطلعاته.
من ناحية أخرى، يأتي الخطاب الملكي هذا العام في ظروف إقليمية وعالمية دقيقة تشهد فيها المنطقة والعالم تطورات وتحولات خطيرة وغير مسبوقة، ليؤكد الدور المحوري والريادي للمملكة في تحقيق السلام والأمن والاستقرار والتنمية لدول وشعوب المنطقة، وقيادة العمل العربي والإسلامي المشترك، ومواقفها الثابتة لدعم ونصرة القضايا العربية والإسلامية، ومساعيها الحميدة في حل النزاعات ونهج الوساطة والحلول السلمية للحروب والصراعات التي تشهدها عددٌ من دول العالم. وفي هذا السياق حمل الخطاب رسائل سياسية حاسمة؛ إذ أدان العدوان الإسرائيلي على قطر، وأكد وقوف المملكة بلا حدود مع الأشقاء القطريين، وهو موقف يعكس عمق التضامن الخليجي. كما جدد الموقف الثابت تجاه القضية الفلسطينية، مؤكدًا أن أرض غزة فلسطينية، وأن حقوق شعبها لا تُنتزع بالعدوان، ولا تُلغى بالتهديد. وقد أعاد سموه التذكير بـ “مبادرة السلام العربية” التي أطلقتها المملكة في عام 2002، والتي ما زالت تشكل الأساس الوحيد المقبول دوليًا لحل الدولتين، مشيرًا إلى النجاحات الدبلوماسية التي تحققت مؤخراً، ومنها ارتفاع عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين، ونجاح المؤتمر الدولي لتنفيذ حل الدولتين في نيويورك. وفي إطار اهتمام المملكة بأمن واستقرار المنطقة، شدد الخطاب على أهمية استعادة الاستقرار في سوريا، ورفع العقوبات عنها، ومساندة جهودها في إعادة بناء اقتصادها، كما عبّر عن أمل المملكة في استقرار لبنان واليمن والسودان، مما يعكس نهجًا سعوديًا مسؤولًا ومتوازنًا في دعم الدول الشقيقة بعيدًا عن التدخل في شؤونها الداخلية، وحرصًا على وحدة وسلامة أراضيها.
وأخيرًا، أشاد سمو ولي العهد بالدور الفاعل لمجلس الشورى وإسهاماته المتميزة في تطوير الأنظمة واستكمال البنية التشريعية للدولة، بما يعكس المكانة المتقدمة للمملكة على الصعيد القانوني والتنظيمي. ويمثّل هذا الخطاب نهجًا راسخًا لدعم القيادة الرشيدة للمجلس وإيمانها بدوره التشريعي والرقابي في تنفيذ خطط التنمية واستراتيجيات البناء، وتطوير البنية التشريعية للجهاز الحكومي والإداري بما يواكب متطلبات رؤية السعودية 2030 ويحقق تطلعاتها المستقبلية. كما يؤكد الخطاب الدور البرلماني والدبلوماسي للمجلس في توطيد وتعزيز العلاقات مع برلمانات دول العالم، ونقل مواقف المملكة، وتعزيز مكانتها الدولية، بما يرسخ دورها المؤثر في السياسة الخارجية ويحقق أهدافها الاستراتيجية.
وعلى هذا الأساس، تشكّل مضامين ورسائل خطاب سمو ولي العهد خارطة طريق واضحة تحفّز جهود مجلس الشورى وأعضائه لبذل مزيد من العطاء، لا سيما في المجالات التي تندرج ضمن صلاحياته واختصاصاته، وصولًا إلى اتخاذ قرارات رشيدة تُسهم في رفع كفاءة الأجهزة الحكومية وتطوير الأنظمة وتحديثها. كما يمثل الخطاب منهج عمل للأجهزة الحكومية، مسترشدًا بمضامينه الحكيمة حول توجهات الدولة داخليًا وخارجيًا، ورؤيتها في الحاضر والمستقبل، فضلاً عمّا تضمنه من بشائر خير وطمأنينة تحفّز على الإنجاز، وتعكس حرص القيادة على دعم وتعزيز جهود التنمية الشاملة والمستدامة منذ إطلاق رؤية المملكة 2030. وعلى الصعيد الخارجي، يبرز الخطاب الدور الإنساني والسياسي والاقتصادي الريادي للمملكة على المستويين الإقليمي والدولي، ويرسم خارطة طريق للتعامل مع القضايا الإقليمية والدولية. كما يقدم رؤية واضحة للتحديات التي تواجه المجتمع الدولي ومنطقة الشرق الأوسط، حاملاً رسالة سامية تدعو إلى التعايش والسلام والتعاون، وتعكس حرص قادة المملكة التاريخي على زرع الخير، والوقوف الثابت إلى جانب الشعوب العربية والإسلامية، بل وشعوب العالم أجمع، في المحن والابتلاءات، من خلال الدعم السياسي والاقتصادي والمعنوي والإغاثي.
وفي الختام، نسأل الله تعالى أن يحفظ المملكة العربية السعودية وقيادتها الرشيدة، ويديم عليها نعمة الأمن والاستقرار والعز والازدهار.

• أستاذ القانون الدولي المشارك
رئيس قسم القانون العام ووكيل الكلية للتطوير والتنمية المستدامة سابقا

د. حمزة بن فهم السلمي

أستاذ القانون الدولي العام - رئيس قسم القانون العام بجامعة جدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى